المبادرات الدولية يجب أن تكون مكملة للاستراتيجيات الصحية الوطنية، وليس تكرارا لها
كان من الممكن أن يؤدي الفشل في التصدي لجائحة كوفيد-19 إلى عواقب وخيمة على الصحة العالمية. فقد كشفت الجائحة عن ثغرات كبيرة في الإطار الدولي القائم، ومنها الافتقار إلى التنسيق بين منظمات متعددة والتوزيع غير العادل للقاحات بين البلدان مرتفعة ومنخفضة الدخل.
والسلطات الصحية العالمية تتعرض الآن لمخاطر تكرار أخطاء الماضي في التصدي لفاشية إمبوكس (جدري القردة*) في إفريقيا جنوب الصحراء، إذ تسلط هذه الأزمة الضوء على التحدي المألوف المتمثل في تشتت التنسيق بين المانحين، بما يسببه من بطء في زيادة التمويل وعدم كفاية هذه الزيادة. ولا تزال بلدان الخط الأمامي في مواجهة هذه الفاشية تفتقر إلى النظم والموارد المالية اللازمتين لإدارة انتشار المرض بشكل فَعَّال.
وتحتاج البلدان ذات الدخل المنخفض والمتوسط إلى موارد صحية إضافية بشكل عاجل. غير أنه يتعين إنفاق الموارد المتاحة بكفاءة، وتحسين التنسيق بين الجهات المانحة الدولية في القطاعين العام والخاص. وجدير بالذكر أن الاقتصادات النامية لا تخصص موارد محلية كافية للقطاع الصحي، كما أن الهيكل المعقد للجهات المانحة يضعِف التمويل الخارجي. ومن شأن اعتماد منهج متعدد الجوانب يعطي أولوية لتعزيز النظم الصحية في البلدان المختلفة ويدمج المبادرات العالمية في الاستراتيجيات الوطنية أن يؤدي إلى تحقيق أثر دائم على النتائج الصحية في هذه البلدان.
تشخيص صعب
لا يوجد سبب وحيد وراء سوء حالة النظم الصحية في العديد من الاقتصادات النامية. فهذه الحالة تعكس مزيجا من ضعف الموارد المالية العامة، وعدم كفاية المساعدات الخارجية، وضعف التنسيق بين الحكومات الوطنية والجهات الدولية المانحة.
الميزانيات الصغيرة وغير المنفَقة: ظل الإنفاق العام على الصحة راكدا في الآونة الأخيرة في البلدان منخفضة ومتوسطة الدخل عند مستويات أقل من 2% من إجمالي الناتج المحلي، أي حوالي نصف ما تنفقه هذه البلدان على التعليم – ربما انعكاسا لتصور وزراء المالية بأن الجهات المانحة تقدم ما يكفي لذلك. وتشير البيانات الأولية إلى زيادة الإنفاق أثناء جائحة كوفيد-19، لكن العديد من البلدان خفضت الإنفاق منذ ذلك الحين إلى مستويات ما قبل الجائحة.
ويبعث ذلك على القلق بشكل خاص نظرا إلى الطلب المتنامي على الخدمات الصحية والعبء المتزايد للأمراض غير السارية، مثل الأمراض القلبية الوعائية والسرطان والسكري، التي تشهد ارتفاعا متزايدا بسبب شيخوخة السكان وزيادة التلوث البيئي وتغير أنماط الحياة المرتبطة بارتفاع الدخل.
وفي كثير من الأحيان، لا تُنفَق الأموال المخصصة لميزانيات الصحة بالكامل، وخاصة في إفريقيا جنوب الصحراء. وتشير التقديرات المبنية على الأسعار الثابتة لعام 2020 إلى أن نقص الإنفاق في القطاع الصحي يؤدي إلى خسارة قدرها 4 دولارات للشخص الواحد. وتعادل هذه الخسارة ما تنفقه بلدان إفريقيا جنوب الصحراء ذات الدخل المنخفض على الرعاية الصحية الأولية لكل شخص.
انخفاض الإيرادات وارتفاع الديون: أصبح تحصيل الضرائب ثابتا في البلدان ذات الدخل المنخفض والمتوسط وأدى إلى حرمان القطاع الصحي والقطاعات الاجتماعية الأخرى من الموارد. ففي بعض البلدان منخفضة الدخل، تبلغ الإيرادات الضريبية أقل من 10% من إجمالي الناتج المحلي، وهو أقل بكثير من النسبة البالغة 15% التي يوصي بها صندوق النقد الدولي.
وفي الوقت نفسه، تنفق بعض الاقتصادات النامية أكثر من ثلث الإيرادات الضريبية التي تحصلها بالفعل على خدمة الديون المحلية والخارجية، مما يزيد من تقييد الإنفاق على التعليم والصحة. وبعودة البلدان إلى المديونية مرة أخرى، تآكلت المنافع المحققة من مبادرات تخفيف أعباء الديون السابقة، مثل المبادرة المعنية بالبلدان الفقيرة المثقلة بالديون ("هيبيك") التي أُطلقت في منتصف تسعينات القرن الماضي، والمبادرة متعددة الأطراف لتخفيف أعباء الديون التي أطلقت عام 2005.
ركود مساعدات المانحين: ظلت المساعدات الصحية في حدود لا تتعدى 1% تقريبا من إجمالي الناتج المحلي للبلدان ذات الدخل المنخفض والمتوسط طوال ما يقرب من العقدين قبل حدوث الجائحة، ولم تشهد سوى زيادة طفيفة بعد ذلك. وتبدو آفاق المساعدات المستقبلية قاتمة نظرا لضغوط المالية العامة على البلدان المانحة والتحول في الديناميكيات الجغرافية-السياسية.
ولما كانت البلدان المانحة تعطي أولوية لخفض ديونها المرتفعة وزيادة الإنفاق على الدفاع ورعاية سكانها المسنين، يبدو من غير المرجح أن تحدث زيادة كبيرة في المساعدات الصحية للبلدان منخفضة ومتوسطة الدخل.
التشتت: غالب ما تكون المساعدات الصحية الخارجية متقلبة، وتعطي أولوية أكبر لجداول الأعمال العالمية مقارنة بالاحتياجات الوطنية. وقد تكاثرت البرامج المخصصة لأمراض محددة، والمعروفة باسم "الصناديق الرأسية"، وخلقت مشهدا مشتتا لمانحين متعددين يعملون بشكل مستقل، مما أسفر عن ازدواجية في الجهود وانعدام للكفاءة.
وعلى مدار السنوات الخمس عشرة الماضية، زاد عدد الجهات المانحة لشتى أنواع المساعدات بمقدار الضِعف، كما زاد عدد الوكالات المانحة ثلاثة أضعاف. غير أن التدفقات المالية للجهات المانحة لم تنمُ إلا بمقدار 50%، كما انخفض حجم المنح الرسمية والتدفقات الرسمية على السواء (الرسم البياني 1).
ومن المؤكد أن الشروط التي يفرضها المانحون على البلدان المتلقية للمساعدات لضمان إنفاق الأموال في الأوجه الملائمة، بدافع من المخاوف المتعلقة بالحوكمة، هي شروط نابعة من حسن النوايا، ولكنها مرهِقة. ذلك أنها تزيد من تكلفة استيعاب الموارد الخارجية والتكلفة التي تتحملها البلدان لتطوير قدراتها الحكومية في الهيئات الصحية.
"توطين" المساعدات: يقوم العديد من الجهات المانحة الثنائية بتقديم المساعدات من خلال هيئات غير حكومية تعمل ميدانيا، وليس مباشرة من خلال السلطات الصحية في البلد المتلقي. وكانت المبادرات الأخيرة، بما في ذلك مبادرات الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية*، سببا في زيادة مشاركة المنظمات غير الحكومية المحلية في المساعدات الصحية، وهي عملية تعرف باسم "التوطين".
وقد يؤدي استمرار تمويل المنح من خارج الميزانية عن طريق المنظمات غير الحكومية المحلية إلى إطالة أمد الاعتماد على المساعدات الخارجية وتثبيط محفزات زيادة التمويل المحلي من جانب الحكومات. ويمكن أن يؤدي ذلك أيضا إلى جذب العاملين الأساسيين في المجال الصحي بعيدا عن وزارات الصحة المحلية، وخلق تحديات في التنسيق بين سلطات البلدان والجهات المانحة الأخرى.
منهج متكامل
ولعلاج هذا التشخيص المعقد، يجب التحول من التدخلات أحادية التركيز التي تستهدف السيطرة على مرض معين، إلى أساليب متكاملة تراعي التفاعلات المعقدة بين العوامل الصحية والاقتصادية والاجتماعية. ولا يتطلب الأمر منهجا ثوريا؛ فقد دعا جدول أعمال لوساكا 2023* إلى تحقيق اتساق أكبر بين مبادرات الصحة العالمية والأنظمة الصحية القُطرية والرعاية الصحية الأولية في إفريقيا، بما يتفق مع إعلان باريس 2005* بشأن فعالية المساعدات.
وللعمل على تنفيذ جدول الأعمال هذا، يتعين على مجتمع الصحة العالمي أن يدرك الحاجة إلى الإصلاح والالتزام بمنهج يعزز النظم الصحية القُطْرية ودمج المبادرات العالمية في الاستراتيجيات الوطنية. ففي نهاية المطاف، لم يتمكن أي بلد، بغض النظر عن مستوى دخله، من تقديم الرعاية الصحية الشاملة دون زيادات كبيرة في الإنفاق العام.
وعلى الصعيد الداخلي، يجب على البلدان أن تعتمد بشكل متزايد على مواردها الخاصة، وهو ما يمثل توجها أكثر استقرارا. وينبغي أن يكون الهدف هو تمويل كافة الأنشطة الصحية الأساسية أو معظمها من مصادر محلية. ولتحقيق ذلك، تحتاج البلدان ذات الدخل المنخفض والمتوسط إلى زيادة إيراداتها. وطبقا لتقديرات صندوق النقد الدولي*، يمكن لهذه البلدان أن تضيف ما يعادل 5%-9% من إجمالي الناتج المحلي بمرور الوقت.
ويمكن للبلدان تحقيق هذا الهدف إذا قامت بتعزيز النظم الضريبية المحلية من خلال توسيع القاعدة الضريبية وتحسين الامتثال الضريبي. وينظر الكثير من البلدان في زيادة الضرائب على التبغ لتوليد إيرادات إضافية سريعة. وقد يوفر هذا المنهج إيرادات إضافية على المدى القصير، لكن مثل هذه الضرائب ليست حلا على المدى الطويل، حيث من المرجح أن ينخفض الاستهلاك مع الوقت – وهو هدف أساسي للضريبة. وفي نهاية المطاف، ينبغي أن يكون الهدف هو تقليل الاعتماد على أموال المانحين للقطاع الصحي.
وعلى المستوى الدولي، ينبغي للجهات المانحة أن تعمل على مواءمة جهودها مع أولوية البلدان المتمثلة في الرعاية الصحية الشاملة. فمن الممكن أن يؤدي ذلك إلى تحسن كبير في تنسيق الصناديق الصحية الرأسية المخصصة لأمراض معينة، مما سيسمح بتوسيع نطاق المنافع المتحققة بالتدريج والحد من عدم كفاءة الإنفاق. والدواء ليس بجديد؛ فإعلان باريس 2005 يهدف إلى تحسين تأثير المساعدات ويمكنه تقديم الإطار اللازم للتنسيق بين أنشطة الجهات المانحة والاستراتيجيات الصحية الوطنية. (ومع ذلك، فإن التوترات تظل دائما احتمالا قائما لأن الجهات المانحة غالبا ما تفضل الصناديق الرأسية التي تقدم نتائج واضحة لهيئاتها التشريعية وغيرها من الأطراف المعنية).
ومن شأن تأسيس هيئة عالمية دائمة لتنسيق الشؤون الصحية والتمويلية أن يكون خطوة أخرى نحو تعزيز التنسيق والمساءلة. وتُعَد فرقة العمل المشتركة المعنية بشؤون التمويل والصحة التابعة لمجموعة العشرين، والتي تم إنشاؤها استجابة لجائحة كوفيد-19، نموذجا لمثل هذه الهيئة. فقد جمعت تحت مظلتها وزارات المالية والصحة وجهات فاعلة رئيسية في مجال الصحة العالمية، مما أدى إلى تحسين التنسيق وساعد في الحد من الازدواجية. وإلى جانب البنك الدولي ومنظمة الصحة العالمية، سيكون وجود هيئة تنسيقية دائمة بمثابة منتدى للحوار والتعاون والشفافية بين الأطراف المعنية في مجالي الصحة والتمويل العالميين.
الأنظمة المستدامة
وينبغي أن يشمل التنسيق أيضا تحسين أعمال المشتريات. فمن خلال أنظمة مجمعة تضم أموال المانحين، يمكن الحد من عدم الكفاءة وتعزيز نظم المالية العامة وتحسين قدرات البلدان المتلقية في مجال المشتريات.
ومن الممكن أن تبدأ عملية الدمج بمنظمات مثل التحالف العالمي للقاحات والتحصين والصندوق العالمي، حيث تستطيع تكييف أنظمتها المعنية بإعداد التقارير لتطبيق منهج المشتريات المُجَّمَعة بشكل فَعَّال. وبمرور الوقت، يمكن أن تتبنى هذا المنهج جهات مانحة رئيسية أخرى مثل منظمة الأمم المتحدة للطفولة (اليونيسف)، ومنظمة الصحة العالمية، والكيانات المكلفة بشراء المنتجات الصحية.
ولاستكمال العلاج، يجب على وزارات المالية والصحة أن تفهم لماذا قد يكون من الصعب إنفاق الميزانيات المتوفرة لديها بالفعل. فصندوق النقد الدولي وبنوك التنمية متعددة الأطراف يقدمان المساعدة لتعزيز الإدارة المالية العامة على نطاق واسع، ولكن ينبغي لهما التركيز على تحسين تنفيذ الميزانية داخل القطاع الصحي. فوزير المالية قد لا يرفع مخصصات الميزانية الصحية إذا لم يكن وزير الصحة قادرا على إنفاق الميزانية الصحية القائمة.
وهناك تأخر كبير لدى معظم البلدان ذات الدخل المنخفض والمتوسط في تحقيق أهداف التنمية المستدامة المتعلقة بالصحة*. فلا تزال وفيات الأمهات مرتفعة، حيث تجاوزت وفيات النساء 287 ألف امرأة بسبب مضاعفات الحمل والولادة في عام 2020. ولا يزال خفض وفيات الأطفال أقل من المطلوب لتحقيق الأهداف ذات الصلة، كما أدت مشكلات يمكن تلافيها، مثل أمراض حديثي الولادة والالتهاب الرئوي والإسهال، إلى قرابة 5 ملايين وفاة في عام 2022. وعلى الرغم من توافر التكنولوجيات الفعالة بتكلفة منخفضة، فمن المتوقع ألا يتمكن 59 بلدا من تحقيق المستهدف لوفيات الأطفال دون سن الخامسة.
ويستطيع مجتمع الصحة العالمي أن يتجاوز الوضع الراهن، وأن يرسم مسارا جديدا نحو أنظمة صحية متكاملة ومستدامة تتماشى مع الأهداف الاقتصادية والتنموية الأوسع. ومن شأن الالتزام والتعاون أن يبنيا عالما أكثر صحة وإنصافا للجميع.
* باللغة الإنجليزية
الآراء الواردة في هذه المقالات وغيرها من المواد المنشورة تعبر عن وجهة نظر مؤلفيها، ولا تعكس بالضرورة سياسة صندوق النقد الدولي.