5 min (1262 words) Read

لا بد من تحسين الترتيبات الدولية لإنقاذ البلدان من حالة المديونية الحرجة

 

يشكل تصاعد المديونية في الاقتصادات النامية مصدر قلق متزايد. فقد أعلنت بعض البلدان بالفعل، بما فيها سري لانكا وزامبيا، عدم قدرتها على خدمة ديونها وسعت للحصول على المساعدة الدولية. ويعاني العديد من البلدان الأخرى من التزامات مرهقة في خدمة ديونها تصل نسبتها إلى عدة نقاط مئوية من إجمالي الناتج المحلي.

والمديونية هي نعمة ونقمة في آن واحد، فهي تسمح للبلدان النامية التي تتمتع بآفاق اقتصادية واعدة بتمويل استثماراتها في الطرق والمدارس والمستشفيات وغيرها من المجالات التي تحتاجها لتحويل هذه الآفاق إلى واقع. وإذا حققت هذه الاستثمارات ما يتوقع لها من معدلات عائد مرتفعة فسوف تتمكن تلك البلدان من خدمة ديونها. وهذا ما حدث في كوريا في الستينات من القرن الماضي.

فقد كانت كوريا في ذلك الوقت بلدا فقيرا بمعدل ادخار أقل من 10%. واقترضت ما قيمته حوالي 10% من إجمالي الناتج المحلي سنويا، ولكن اقتصادها سريع النمو حقق معدلات عائد مرتفعة على الاستثمار لدرجة انخفضت معها نسبة خدمة ديونها فعليا. وبمرور الوقت، ارتفع معدل ادخارها المحلي لدرجة سمحت لها بالمحافظة على النمو القوي المدفوع بالاستثمارات دون الحاجة للجوء إلى الدين الأجنبي. واليوم أصبحت كوريا من أغنى دول العالم.

غير أن الديون قد تصبح مشكلة إذا استُخدمت لتمويل الاستهلاك الجاري أو الاستثمارات سيئة التخطيط. فعندما لا تحقق الاستثمارات العائد المنتظر، تصبح البلدان المقترضة أكثر فقرا لأنها لا تزال مضطرة لخدمة القروض التي حصلت عليها لتمويل تلك الاستثمارات. وتفشل عادة احتمالية تحقيق عائدات أعلى بمزيد من الاقتراض لأن تزايد المخاوف حول الجدارة الائتمانية يرفع أسعار الفائدة. وإذا ازداد تدهور الآفاق اقتصادية للبلد المقترض، قد يرفض الدائنون، وهو ما يحدث بالفعل، تمديد الديون القائمة.

نطاق المخاطر

عندما ينظر المقرضون في اتخاذ قرار بشأن تقديم قروض إضافية لأحد الاقتصادات النامية، لا بد أن يتحروا الدقة في تقدير مجموعة من المخاطر، من السياسات والآفاق الاقتصادية الكلية لذلك البلد إلى احتمال حدوث تقلبات في أسعار صادراته الرئيسية من السلع الأولية. وفي بعض الأحيان قد تؤدي وعود الحكومة القائمة أو القادمة بإصلاح السياسات - ربما في إطار برنامج اقتصادي مع صندوق النقد الدولي - إلى إقناع المقرضين بأن البلد سيستعيد جدارته الائتمانية. وفي تلك الحالات، يوافق المقرضون عادة على تمديد الديون وشيكة الاستحقاق.

ولكن عندما تكون نتائج سياسة الحكومة ضعيفة ويرفض السياسيون تعديل المسار، سوف يصر المقرضون على الأرجح على سداد الدين لدى استحقاقه. والنتيجة هي حدوث أزمة مديونية. فقد تزداد حدة الضغوط على ميزان المدفوعات لدرجة لا يستطيع معها المقترض أن يدفع ثمن واردات السلع والخدمات الضرورية.

وهذا ما حدث في سري لانكا في عام 2021. فعندما وقعت الأزمة، لم يكن بوسع هذا البلد تحمل سوى تكلفة وارداته الضرورية، كالغذاء والوقود. وتوقفت حافلات نقل الركاب عن العمل، وبالتالي لم يكن بوسع الناس الذهاب إلى العمل. ولم يكن بوسع العديد من المصانع الحصول على المواد الخام، أو السلع الوسيطة، أو قطع الغيار. وكانت انقطاعات التيار الكهربائي لفترات طويلة سمة شائعة. وانخفض النشاط الاقتصادي انخفاضا حادا، بنسبة بلغت 7,8% في 2022 وأعقبه انخفاض آخر بنسبة 3.8% في 2023. وأصبحت محال البقالة خالية من السلع الضرورية. وسجل التضخم ارتفاعا حادا.

وكانت هناك ثلاثة أمور لا بد من حدوثها حتى تتمكن سري لانكا من إعادة بناء جدارتها الائتمانية وتهيئة الأوضاع للتعافي والنمو المستدام. أولا، كان البلد بحاجة لمصدر للنقد الأجنبي لشراء الواردات الضرورية حتى يتمكن من إعادة تشغيل محطات الطاقة والمصانع ووسائل النقل وغيرها من الخدمات الضرورية. ثانيا، كان بحاجة إلى إعادة هيكلة ديونه حتى يكتسب ثقة المقرضين في قدرته على خدمة الدين. ثالثا، كان بحاجة إلى إصلاح سياساته الداخلية.

 

لا بد من وجود ترتيبات أكثر قوة لا يحصل بموجبها الدائن السيادي الممانع على مدفوعات خدمة الدين حتى يوافق على الشروط نفسها مثل الدائنين الآخرين.  
مقاومة سياسية

بدون إصلاح السياسات، ربما كان من الممكن أن يوفر النقد الأجنبي قدرا من التخفيف قصير الأجل. ولكن لم تكن سري لانكا لتحصل على التمويل الخاص اللازم لوارداتها إلا بعد تسويتها مشكلة المديونية غير المستدامة. وفي تلك الأثناء، تفاقمت الأوضاع بشدة حتى أطاحت المظاهرات الاحتجاجية بالحكومة. ولم يصبح إصلاح السياسات ممكنا إلا بعد تولي رئيس جديد مقاليد الحكم في 2024.

ويتوخى السياسيون، دائما تقريبا، الحذر بشأن الإصلاحات التي يرجح أن تواجه مقاومة سياسية شديدة. غير أن الاختيار ينحصر بين تحمل الألم لفترة قصيرة أو السماح بتدهور الأوضاع والتسبب في مزيد من الألم على المدى الطويل. ولكن المخاطرة الكبيرة تتمثل في أن الإصلاحات لت تستمر لفترة كافية ويصيبها الفشل. وهنا يقع اللوم بدون وجه حق على المصلحين أنفسهم.

ويضطلع صندوق النقد الدولي بدور داعم في معالجة التحديات كتلك التي تواجهها سري لانكا، فهو المؤسسة المنوط بها حماية النظام النقدي العالمي. وتتمثل قوة الصندوق الجوهرية في قدرته على تقييم الوضع الاقتصادي الكلي للبلد المعني، كما تتوفر لديه الموارد المالية التي يمكن إقراضها (عادة لفترة لا تزيد على ثلاث إلى خمس سنوات) لدعم البلدان التي تواجه ظروفا صعبة. ولكن ميثاق صندوق النقد الدولي ينص على عدم جواز ذلك إلا إن كانت هناك ضمانات معقولة بأن المقترض سوف يتمكن من خدمة القرض الذي يحصل عليه. وقد توصلت السلطات في سري لانكا والصندوق إلى اتفاق بشأن برنامج للإصلاح الاقتصادي. ومع ذلك، يتعين على سري لانكا كذلك إعادة هيكلة ديونها لكي تتعامل مع متأخراتها وتستعيد قدرتها على النفاذ إلى أسواق الائتمان الدولية.

الدائنون الممتنعون عن المشاركة

عندما كان أحد البلدان يتعرض لصعوبات بالغة فيما مضى من سنوات، كان مقدمو القروض السيادية يجتمعون في إطار نادي باريس. وكانوا يتناولون مناقشة برنامج لاستعادة النمو والجدارة الائتمانية سبق لسلطات البلد المعني والصندوق التوصل إلى تفاهم مشترك بشأنه. وكان الدائنون من القطاع الخاص يعقدون اجتماعاتهم أيضا في هذا الخصوص. وكان الصندوق يقدم رأيه الاستشاري أثناء المفاوضات الجارية بين البلد المعني والدائنين بشأن تعديلات خدمة الدين - في معظم الأحيان في هيئة “تخفيض قيمة الدين ضمانا للسداد” (أي تخفيض في القيمة الاسمية للدين القائم) وربما توقف مؤقت في مدفوعات السداد. ولدى توصل جميع الأطراف إلى اتفاق على خطة إعادة هيكلة الدين، يقوم الصندوق عندئذ بالإقراض (مقترنا غالبا بقروض جديدة من مقدمي القروض السيادية الثنائيين).

غير أنه في غضون العقد الماضي أصبحت الصين من كبار مقدمي القروض السيادية لكنها فضلت البقاء خارج إطار نادي باريس. ورغم أنها منحت مساعدات تخفيف أعباء الديون في حالات كثيرة، فليس لديها إجراءات داخلية مكتملة النضج للنظر في تقديم تخفيضات في قيمة الدين ضمانا للسداد ولم تسمح لجهاتها الإقراضية إلا بقدر محدود من التقدير الاستنسابي لإعادة جدولة مدفوعات خدمة الدين.

وكانت سري لانكا من أول البلدان التي تتعامل مع الصين كأحد كبار الدائنين وتبلغ النقطة التي تصبح عندها غير قادرة على الاستمرار في تحمل ديونها. وقد استغرق بقية المجتمع الدولي قرابة السنتين للتوصل إلى صيغة اتفاق مرضية للصين، ونتيجة لذلك تأجل تنفيذ برنامج الصندوق قرابة عام كامل، مما أدى إلى إطالة أمد المعاناة في سري لانكا.

ومن المؤكد أنه لا يُتوقع من صندوق النقد الدولي تقديم الائتمان إذا كان الدائنون والمقرضون من القطاع الخاص يساورهم شك بأن قروضهم سوف تستخدم لتمويل مدفوعات خدمة الدين لبلد دائن ممتنع عن المشاركة في إعادة الهيكلة. وفي حالة سري لانكا، لم يوافق أي دائن على إعادة هيكلة الدين، ومن ثم لم يتمكن الصندوق من تسوية مشكلاتها. وفي الوقت نفسه، أدت تأجيلات إعادة هيكلة الدين في انتظار قرار الدائن الممتنع عن المشاركة إلى تراكم الضغوط على هذا البلد الذي ينوء من وطأة الأزمة وتسببت في تراجع التعافي الاقتصادي.

طريقة أفضل

لا بد أن نجد طريقة أفضل للتصدي لمشكلة المديونية في الاقتصادات النامية. وكحد أدنى، يجب أن تكون البلدان الواقعة في أزمة قادرة على وضع خطة لإعادة هيكلة ديونها بالتعاون مع صندوق النقد الدولي ونادي باريس والدائنين الآخرين. ولا بد من وجود ترتيبات أكثر قوة (تتجاوز حدود سياسة الصندوق للإقراض في وجود متأخرات) لا يحصل بموجبها الدائن السيادي الممانع على مدفوعات خدمة الدين حتى يوافق على الشروط نفسها مثل الدائنين الآخرين. بل من الأفضل أن تنضم الصين إلى عضوية نادي باريس.

والأفضل من كل ذلك لو أن هناك إجراءات وهيئة تحكيمية متفقا عليها دوليا يمكن للدائنين والمدينين على السواء اللجوء إليها لعرض مطالباتهم. ويمكن للهيئة التحكيمية أن تقرر التسوية التي تسمح باستئناف النشاط الاقتصادي الطبيعي والنمو المستدام مع توفير تسوية عادلة قدر الإمكان للدائنين حسب الظروف القائمة. وفي ظل تصاعد مشكلات الديون، آن الأوان لإصلاح الترتيبات الحالية.

آن أوزبورن كروغر هي زميل أول في كلية الدراسات الدولية المتقدمة بجامعة جونز هوبكنز وأستاذ كرسي كارولين ريتش للعلوم والإنسانيات في قسم الاقتصاد بجامعة ستانفورد. وهي كبير الاقتصاديين الأسبق في البنك الدولي والنائب الأول الأسبق لمدير عام صندوق النقد الدولي.

الآراء الواردة في هذه المقالات وغيرها من المواد المنشورة تعبر عن وجهة نظر مؤلفيها، ولا تعكس بالضرورة سياسة صندوق النقد الدولي.