5 min (1403 words) Read

انعدام الأمن، والأوضاع السياسية المضطربة، والمؤسسات الضعيفة تضع العراقيل أمام آفاق التقدم الاقتصادي المشترك

"بدون تحليل القوى، من الصعب أن نفهم عدم المساواة أو أي شيء آخر في الرأسمالية الحديثة"، حسب رأي أنغوس ديتون في مقاله* في عدد مارس الماضي من مجلة التمويل والتنمية. وأسلوب ديتون الفكري له نفس الأهمية بالنسبة لبعض بلدان العالم الأشد فقرا، ولا سيما في غرب إفريقيا. فبدون تحليل القوى السياسية وكيفية تفاعلها مع أشكال القوة الأخرى يستحيل أن نفهم المسارات الاقتصادية لبلدان غرب إفريقيا وأوجه الهشاشة وعدم اليقين البالغة التي تتخلل الأوضاع الأمنية والسياسية في معظم أنحاء المنطقة.

عدم الاستقرار السياسي والانعدام الأمني

لا تزال منطقة وسط الساحل تجذب اهتماما خاصا حيث ترسخت أقدام عدة جماعات مسلحة من غير الدول، بما فيها الجماعات الإرهابية، على مدار الاثنتي عشرة سنة الماضية. ووفقا لما ورد في مؤشر الإرهاب العالمي* لعام 2024، فإن بوركينا فاسو، ومالي، والنيجر مصنفة ضمن البلدان العشرة الأكثر تضررا بالإرهاب في أنحاء العالم.

فقد شهدت هذه البلدان الثلاثة انقلابات عسكرية في الفترة بين عامي 2020 و2023. وتعرضت مالي لمحاولة للإطاحة بالحكومة على مرحلتين في سبتمبر 2020 وإبريل 2021، مما أدى إلى انطلاق مرحلة جديدة من أزماتها السياسية والأمنية الطويلة التي بدأت في 2012. وأعقبتها بوركينا فاسو في عام 2022، حيث تعرضت لانقلاب في يناير وآخر في سبتمبر. وفي النيجر، وقع انقلاب في يوليو 2023، رغم أن الوضع الأمني كان أقل خطورة كثيرا مقارنة بالوضع في مالي وبوركينا فاسو.

وربما كان بعض ضباط الجيش الذين استولوا على السلطة مدفوعين، جزئيا على الأقل، برغبة صادقة في تحسين الوضع الأمني - غير أن الرغبة في السلطة والحصول على المزايا ربما كانت الحافز لغيرهم. فقد استطاع الضباط استغلال حالة الإحباط الشعبي الواسعة إزاء تدهور الوضع الأمني، بالإضافة إلى عدم إحراز تقدم على الصعيدين الاقتصادي والاجتماعي في ظل حكم القيادات المنتخبة بأسلوب ديمقراطي. وكان عجز الحكومات المدنية عن كبح فقدان السيطرة الفعلية على قطاعات كبيرة من الأراضي الوطنية، في مالي وبوركينا فاسو على وجه الخصوص، هو ما أعطى الجيش الذريعة المثلى للاستيلاء على السلطة السياسية. وبخلاف الأفراد الذين يتولون زمام الحكم في الوقت الراهن، من المرجح أن تفرض الجيوش نفوذها القوي على السلطة السياسية في هذه المنطقة لسنوات عديدة قادمة.

وقد تركت الأزمات التي استمرت على مدار عقد كامل في منطقة الساحل الإفريقي آثارا فادحة بالفعل، لا سيما من خلال الفرص التعليمية الضائعة. فالجيل الحالي من المراهقين والأطفال لم يكتسب سوى القليل من المعرفة والمهارات الحياتية في ظل حالات إغلاق المدارس، والنزوح الداخلي، وازدياد شدة العوز بين الأسر - ليصبح هؤلاء الشباب مهددين بالانخراط في عالم الجريمة والإرهاب. ولن يترتب على تدني الأوضاع المعيشية اليومية سوى إطالة أمد الأزمات الأمنية والسياسية في المنطقة، وزيادة أوجه هشاشتها.

التاريخ له أهميته

رغم تدهور الوضع في منطقة الساحل بدرجة ملحوظة منذ عام 2012، فإن حالة الهشاشة في مالي وبوركينا فاسو والنيجر مرتبطة مباشرة بتحدي بناء الدولة - بما في ذلك مؤسساتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية - التي تشكلت بالتركة التي خلفها الاستعمار الفرنسي.

وبالإضافة إلى تركة الاستعمار الممتدة، فإن العامل المشترك بين بلدان الساحل هو حداثة عمرها كدول مستقلة داخل حدودها الحالية. فجهود بناء المؤسسات السياسية التي توحي بالثقة بين شعوب البلدان التي تتميز بقدر كبير من التنوع العرقي والثقافي واللغوي لا يتجاوز عمرها بضعة عقود شهدت خلالها درجات متباينة من النجاح.

وعلاوة على ذلك، أدت الأزمات الاقتصادية والمالية في أواخر ثمانينات وتسعينات القرن الماضي، التي أعقبتها فترة من الاستقرار الاقتصادي الكلي والتصحيح الهيكلي في المنطقة، إلى توجيه ضربة عنيفة لجهود بناء دول قادرة على الفعل وذلك بالحد من قدراتها على التصرف بدرجة كبيرة وجعلها معتمدة على المؤسسات الدولية. وقد استعادت عدة بلدان في المنطقة نظم التعددية الحزبية والانتخابات التنافسية، ولكن إجراءات التحول إلى الديمقراطية اتسمت بالهشاشة، ولم تكن أحكام القانون الدستوري مطبقة دائما في الممارسات السياسية.

سجون النفوذ

في مقال نُشر في عام 2015 عن الاقتصاد السياسي في النيجر*، يطرح خبير الأنثروبولوجيا الفرنسي-النيجري، جان بيير أوليفييه دي ساردان، نظريته عن السبب في وقوع البلدان في هذا الشرك من ضعف الحوكمة وعدم الاستقرار. ويعرِّف "سجون النفوذ" بأربعة حرّاس رئيسيين لبواباتها، هم: الأعمال التجارية الكبيرة، وميليشيات الأحزاب السياسية وحلفاؤها وحاشيتها؛ وطبقة البيروقراطيين؛ والخبراء الدوليون.

وكتب أوليفييه جي ساردان في مقاله: "أيا كان من يأتي إلى السلطة لا بد أن يلبي مطالب العديد من جماعات المصالح. فالرئيس المنتخب يوزع الوزارات على الأحزاب التي ساعدت في انتخابه، ويتعين على الوزراء بدورهم توزيع المناصب على الناشطين، ويعمل هؤلاء الناشطون كذلك على إيجاد مكافآت صغيرة للناشطين الآخرين في هيئة تقديم خدمات أو عقود توريدات صغيرة".

ويسعى رؤساء الأعمال التجارية الذين يوفرون النفوذ السياسي للحصول على عائد على استثماراتهم في هيئة حماية، وإعفاءات ضريبية، ووظائف حكومية مهمة لحلفائهم، وترسية عقود. وهم بالتالي في صميم الفساد النظامي، المرتبط مباشرة بالزيادة المستمرة في تكلفة الحملات الانتخابية في سياق من الفقر واسع النطاق.

ويوضح أوليفييه دي ساردان كذلك كيف يشكل الخبراء الدوليون ونظام المعونة الدولي جزءا من هذا الاقتصاد السياسي، الذي ظل يغذي السياسات العامة المفتقرة للكفاءة والنتائج الاقتصادية المخيبة للآمال. وأشار في مقاله إلى أن "نظام المعونة، سواء كانت معونة للمشروعات أو للقطاعات أو للموازنة العامة (فثلاثتها لا تزال متداخلة)، يحفز حالة من التبعية غير الصحية والتي تسبب العجز".   

وهذه الروابط بين الممارسات السياسية ووظائف الدولة والخدمات العامة والأوضاع المعيشية ليست مقصورة على منطقة الساحل الإفريقي، فهي قائمة في معظم البلدان في غرب إفريقيا وأبعد من ذلك - وإن كان هناك تباين في نطاق ومدى تطور استحواذ جماعات المصالح على المؤسسات والفرص الاقتصادية. وتزداد الأمور تعقيدا نتيجة الأزمات الأمنية، التي ترجع في جانب منها للنجاح المحدود في بناء المؤسسات وتنمية الاقتصاد.

الاستثمار في المؤسسات والبشر

إن كبح الاستحواذ على الدولة من جانب قلة من الجماعات التي تستغل قربها من أصحاب النفوذ السياسي يستدعي النهوض بالمؤسسات عن طريق تشجيع الكفاءة والنزاهة. وتتضمن الإجراءات التي يقترحها "مركز البحوث لمواطني غرب إفريقيا (WATHI)، الذي أترأسه، تقوية المؤسسات التي تتحكم في استخدام الموارد العامة، ومكافحة الفساد مع إضفاء الطابع المؤسسي على مشاركة المواطنين في النقاش حول السياسات العامة باعتباره مكونا أساسيا في الحوكمة الديمقراطية*. ونوصي كذلك باعتماد منهج مؤسسي مدروس بعناية يهدف إلى الحد من عدم المساواة المكانية داخل البلدان بمراقبة سير التقدم في تقديم الخدمات العامة.

وتمثل المساعدة في تحقيق الاستقرار في بلدان الساحل عاملا جوهريا في سبيل التنمية الاقتصادية المستدامة عبر مساحة شاسعة من أراضي القارة الإفريقية. ورغم آثار جائحة كوفيد-19 والحرب الدائرة في أوكرانيا، فقد استطاعت عدة بلدان في غرب إفريقيا (مثل بنن وكوت ديفوار والسنغال) أن تحقق مستويات كبيرة من النمو الاقتصادي في السنوات الأخيرة. ومع ذلك، فإن استمرار النمو في تلك البلدان مرهون بالحفاظ على الأمن في أراضيها وبالوعي بمفهوم المخاطر، الذي يتأثر بالوضع في منطقة الساحل. 

ويجب أن تأخذ المؤسسات المالية الدولية السياق المحلي والآثار المعاكسة للتدخلات المدفوعة بعوامل خارجية على نحو أكثر جدية، وخاصة في منطقة الساحل. وعلى وجه الخصوص، ينبغي أن تعمل تلك المؤسسات مع بلدان المنطقة لتحديد أولويات الاستثمار في نظام التعليم والتدريب المهني وإصلاحه. وسوف يساعد ذلك في تنشيط الاقتصادات المحلية القائمة على إنتاج المحاصيل، وتربية الماشية، ومعالجة الموارد الطبيعية على نطاق ضيق.

وفي جميع أنحاء غرب إفريقيا، يتوقف إحراز التقدم المستدام على الصعيدين الاقتصادي والاجتماعي - مع عدم الخلط بينه وبين النمو الاقتصادي قصير الأجل - على إعادة تركيز الجهود على بناء المؤسسات والاستثمار في البشر.

* باللغة الإنجليزية

جيل أولاكونلي يابي هو مؤسس "مركز البحوث لمواطني غرب إفريقيا" (WATHI) ومديره التنفيذي، وباحث غير مقيم لدى برنامج إفريقيا في "مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي".

الآراء الواردة في هذه المقالات وغيرها من المواد المنشورة تعبر عن وجهة نظر مؤلفيها، ولا تعكس بالضرورة سياسة صندوق النقد الدولي.