5 min (1403 words) Read

احتفى كينز بالمثل العليا لمؤسستي بريتون وودز باعتبارها انتصارا للروح الإنسانية

 

أحد خطابات جون مينارد كينز الأكثر هزلا خلال أعوامه الثلاثين في الحياة العامة كان من آخرها أيضا. ففي حديثه وسط "حدائق الطحالب الإسبانية الكثة المنسدلة" في دفء أواخر الشتاء بمدينة سافانا، جورجيا، طلب كينز إلى الحضور من الاقتصاديين والمحامين والدبلوماسيين التفكير للحظة في حوريات رواية "الجمال النائم".

وتساءل كينز، ماذا عسانا أن نطلب من تلك الأرواح الطيبة في حفل تعميد "توأميه" الحبيبين – البنك الدولي وصندوق النقد الدولي؟ تمنى كينز ثلاث "هبات أساسية"؛ أولا، معطفا متعدد الألوان ليكون بمثابة "تذكرة خالدة بانتمائهما للعالم بأسره". وثانيا، مجموعة من الفيتامينات لمنحهما "الطاقة والروح الباسلة". وأخيرا، هبة "الحكمة والصبر وحرية الاختيار الكاملة" لكسب ثقة الشعوب المعوزة.

واستشهاد كينز برواية "الجمال النائم"، الذي ربما لم يفقه الحضور دلالته، لم يكن شطحة خيال، بل كان كناية أدبية أكد بها على الهدف الأساسي من وجهة نظره لما أُطلق عليه لاحقا مؤسستا بريتون وودز. فقبل صدور فيلم شركة والت ديزني المقتبس عن الرواية عام 1959، اكتسبت الرواية الشهرة الأكبر على الإطلاق بفضل عرض الباليه الرائع الذي سمي بنفس الاسم من تأليف الروسي تشايكوفسكي، وهو عرض مقتبس بدوره عن رواية ألمانية من تأليف الأخوين غريم اللذين استوحياها من حكاية شعبية فرنسية ترجع للعصور الوسطى. وهكذا، لا يمكن لبلد أن يدعي ملكيته للجمال النائم – فخلود هذه الرواية هو نتاج طابعها الدولي.

الأخوة الإنسانية

بالنسبة لكينز، على الأقل، كان الصندوق والبنك تجسيدا لفكر جغرافي-سياسي أقيم كثيرا مما عداه من إشكاليات فنية وإدارية. وفي الواقع، احتفى كينز بمؤسستي بريتون وودز باعتبارهما انتصارا للروح الإنسانية، حتى وإن قوبل العديد من مقترحاته بالرفض خلال جولات متعددة من المفاوضات. فبصوت مفعم بالحماس، أخبر كينز ريتشارد هوبكنز، وكان مسؤولا بالخزانة البريطانية، أن "المؤتمر حقق نجاحا هائلا باعتباره تجربة في التعاون الدولي"، وكان ذلك عقب المؤتمر الذي عُقد عام 1944 في جبال نيوهامبشير. وقال أمام المؤتمر نفسه "لقد تعلمنا أن نعمل معا. وإذا استطعنا مواصلة هذا الطريق، فإن هذا الكابوس، الذي قضى فيه معظم الحاضرين اليوم جزءا كبيرا من حياتهم، سيكون إلى زوال. وستكون أخوة الإنسانية أكثر من مجرد شعار".

وخلال الخمسة عشر عاما الأخيرة من حياته، كان أحد التحديات الفكرية الكبيرة التي واجهت كينز أن يثبت للاقتصاديين أن نظرية الميزة النسبية لديفيد ريكاردو لم تكن في الحقيقة بديلا لهذه الصورة من التعاون والمعاملة بالمثل والتبادل الثقافي. فالاقتصاد العالمي لم يتكون من سلعتين أوليتين على غرار التجربة الفكرية الشهيرة لريكاردو، كما أن التطور التكنولوجي أدى إلى تراجع أهمية مكاسب الكفاءة المحققة من تحرير التجارة. وحينما روج كورديل هول، وزير الخارجية الأمريكي، لمفهوم التجارة الحرة في بريتون وودز باعتباره حلا للدمار الناجم عن الحرب، سخر كينز من "المقترحات الرعناء للسيد هول". ففي المجمل، لم يكن غياب التعريفات الجمركية هو المهم، بل الحفاظ على توازن مختلف الاحتياجات الإنمائية لمختلف البلدان والاعتراف بها.

أدوات السياسات الملائمة لهذا القرن لن تكون مجرد تكرار لأدوات العقود الماضية.

وفي أواخر أربعينات القرن الماضي، كان من بين هذه الاحتياجات الإنمائية إعادة بناء المناطق التي دمرتها الحرب والتحول الصناعي في البلدان الفقيرة التي حُرمت من النمو الهائل الذي تمتعت به أوروبا والولايات المتحدة منذ بداية القرن. وكان من شأن الاستيراد بأسعار زهيدة أن يساعد البلدان في الحصول على ما لم يمكنها توفيره من مواردها الذاتية، ولكن فرض التعريفات الجمركية كان بمقدوره أيضا مساعدة البلدان في تنمية أو إصلاح قطاعاتها الصناعية التي دمرتها الحرب. ومن منظور كينز، لم يكن هناك قانون ثابت يحدد أي الخيارين أصح في ظروف معينة.

واليوم، نشأت عن أزمة المناخ احتياجات إنمائية جديدة، حتى في البلدان الأكثر ثراء. فما من أمة قد تأمل في التخفيف من الويلات التي تواجه الكوكب دون التحرك السريع نحو استحداث واستخدام تكنولوجيات جديدة ونظيفة. غير أن أدوات السياسات الملائمة لهذا القرن لن تكون مجرد تكرار لأدوات العقود الماضية. وينطبق ذلك خصوصا على قضايا التجارة الدولية، حيث تكون التعريفات الجمركية وإعانات الدعم المقدمة من الدولة والشركات المملوكة للدولة – التي غالبا ما يدينها الاقتصاديون باعتبارها حواجز أمام الابتكار والمنافسة – ضرورية على الأرجح لتنمية سوق عالمية سليمة للصناعات المراعية للمناخ. وفي الوقت الحالي على الأقل، لا تزال التكنولوجيات الخضراء صناعات وليدة تتطلب المزيد من الحماية وليس المزيد من الانضباط.

مبادئ أم شعارات جوفاء

كان أكبر مخاوف كينز بالنسبة للصندوق والبنك – والذي أعرب عنه ضمنا في كلمته التي ألقاها في مدينة سافانا عندما أشار إلى الجنية الشريرة كارابوس، وصراحة في تقاريره التي أرسلها إلى بلاده – أن "التوأمين" قد يصبحان من أدوات قوة الولايات المتحدة بدلا من أن يكونا مؤسستين دوليتين تتمتعان باستقلالية حقيقية. وفي نهاية المطاف، لم يصدق الاتحاد السوفيتي على اتفاقات بريتون وودز، وهكذا إشارة إلى أنه قُدِّر للبنك والصندوق العمل على أحد جانبي الحرب الباردة. وفي غياب جميع أشكال التدخل والحماية في عالم التجارة، دائما ما ستمنح قواعد الميزة النسبية الريكاردية أفضلية لأوائل المنضمين إلى فضاء التكنولوجيا الخضراء، معطية الفرصة لقلة من البلدان المحظوظة للتمتع بجميع ثمار التنمية. وتلك وسيلة للسيطرة، لا للتعاون.

ولكن المستقبل هو ما نصنعه بأيدينا. فبمساعدة مختلف الأمم في سعيها إلى اكتساب التكنولوجيات والخبرات الجديدة من خلال اختبار مجموعة واسعة من السياسات الاقتصادية، يمكن لمؤسستي بريتون وودز أن تضطلعا بدور تحولي، لا في مكافحة تغير المناخ فحسب، بل في تعزيز التوافق الدولي. ولا يمكن لغير المؤسسات الدولية الاضطلاع بهذا الدور إذا أردنا نجاحه.

وخلال المؤتمر المنعقد في سافانا، كان كينز يعي أن الحديث عن التنسيق والتعاون الدوليين إنما هو "مفردات نبيلة يتعذر كثيرا تحقيقها في الواقع". والفرق بين المبادئ العظيمة والشعارات الخاوية غالبا ما يصعب تمييزه على الورق – فالمثل العليا لا يُرجى دوامها إلا باستمرار التواصل وعمق التفاني. وينطبق ذلك خصوصا على سياسة تنمية المناخ، حيث تكون الخصائص المشتركة نادرة والخصائص الفردية معقدة. فما يصلح لبلدان أو تكنولوجيات بعينها لا يصلح لغيرها بالضرورة. ولكن إذا ما قُدِّر لمؤسسة دولية الاستمرار لثمانين عاما، والنجاة من الحرب الباردة والقرن العشرين، فإن الأمل في أن تصبح منتديا للتعاون المبتكر خلال الثمانين عاما القادمة ليس من قبيل اللامعقول. وكما قال كينز في مدينة سافانا "حوريات أو لا حوريات، ليكن ذلك بشارة بالخير".

زاكاري كارتر باحث غير مقيم في مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي ومؤلف كتاب بعنوان " The Price of Peace: Money, Democracy, and the Life of John Maynard Keynes ".

الآراء الواردة في هذه المقالات وغيرها من المواد المنشورة تعبر عن وجهة نظر مؤلفيها، ولا تعكس بالضرورة سياسة صندوق النقد الدولي.