5 min (1403 words) Read

متابعة صندوق النقد الدولي سلامة الاقتصاد في البلدان الأعضاء تواجه تحديا جديدا يتعلق باختلاف الأجيال

من الذكاء الاصطناعي إلى تغير المناخ، والتحولات الديموغرافية، وانتشار السياسات الصناعية، يجب على العالم اجتياز تحولات هيكلية كبرى في العقود المقبلة. ويمكن لوظيفة الصندوق الرقابية - أي عمليات الفحص المهمة لسلامة الاقتصاد في البلدان الأعضاء - أن تكون بمنزلة الخريطة الإرشادية وبوصلة التوجيه على حد سواء. ومن الممكن لأطر أقوى للسياسات أن تسترشد بتحليلها لهذه التحولات المهمة لمساعدة البلدان على الصمود في مواجهة الصدمات واغتنام الفرص الجديدة لتحقيق النمو. ولكن بقدر ما يجب على البلدان أن تتطور وتتكيف، فإنه يجب على وظيفة الرقابة التي يمارسها الصندوق فعل ذلك أيضا.

وقد سبق أن واجه الصندوق تحديات، وأظهر قدرته على إحداث تغيير. وفي بعض الأحيان، تعرض الصندوق لانتقادات كانت في محلها بسبب مشورته بشأن السياسات أو التركيز الضيق على بعض التعديلات في سياسات على حساب سياسات أخرى. وعلى الرغم من ذلك، فقد تعلم الدرس، وعزز عملية التعلُّم من الأقران لتحديد المشورة الجيدة بشأن السياسات، وهو ما تكلل في بعض الأحيان بنجاح أكثر منه في أحيان أخرى.

وفي صميم عمله، فإن صندوق النقد الدولي هو مؤسسة للتعلم.

وقد ظهر أول محور رئيسي في وظيفة الرقابة التي يمارسها الصندوق بعد انهيار نظام بريتون وودز لأسعار الصرف الثابتة. وأدى ذلك الأمر إلى إدخال تغييرات على اتفاقية تأسيس صندوق النقد الدولي في عام 1978، التي أدت إلى توسيع نطاق مهمته إلى ما هو أبعد من سياسات سعر الصرف لتشمل السياسات النقدية والمالية وسياسات المالية العامة. وأدرك الصندوق أن تلك السياسات كان لها تأثير على الاستقرار المحلي والخارجي في النظام الجديد لترتيبات سعر الصرف المعوَّم.

وتمثل محور آخر فاصل في سلسلة من أزمات الحساب الرأسمالي في حقبة التسعينيات وأوائل العِقد الأول من القرن الحادي والعشرين. فقد تلى خفض سعر العملة في المكسيك في عام 1994 أزمات في شرق آسيا (1997-1998)، وروسيا (1998)، والبرازيل (1999)، وتركيا (2001)، والأرجنتين (2002)، وأوروغواي (2003). ودفعت تلك الأزمات صندوق النقد الدولي إلى زيادة رقابته على أسعار الصرف والقطاع المالي، وإعداد نماذج للإنذار المبكر، والتركيز على استدامة القدرة على تحمل الدين وتحليل الميزانية العمومية القطاعية.

وأظهرت أزمات الحساب الرأسمالي أن الأسواق كانت تفتقر إلى معلومات كافية - من حيث البيانات وأيضا ما يتعلق بنوايا السلطات بشأن السياسات - لاتخاذ قرارات مستنيرة بشأن توقيت الاستثمار ومكانه. ومن ثم، عادة ما بالغت الأسواق في رد فعلها على أي أخبار سلبية، وهو ما عجَّل بحدوث اندفاع للخروج وأزمة عملة محققة لذاتها. وبالتالي، أكد صندوق النقد الدولي على أنه - بالإضافة إلى توفير بيانات في الوقت المناسب لإتاحة رقابة فعالة من الصندوق - ينبغي للبلدان الأعضاء نشر البيانات للجمهور (ولا سيما عن احتياطيات البنك المركزي من النقد الأجنبي)، والالتزام بمعايير الشفافية في السياسات النقدية وسياسات المالية العامة.

وسعى الصندوق أيضا إلى تعميق فهمه لديناميكيات الأزمات، حيث يرى أنها مزيج من مواطن الضعف الأساسية (عادة عدم اتساق بين العملات، أو آجال الاستحقاق، أو الدين إلى حقوق الملكية) ودافعا لأزمة معينة يمكن أن تكون محلية أو خارجية - اقتصادية أو مالية، أو سياسية. وفي عام 2001، استحدث الصندوق تمرين قابلية التأثر لتحديد المخاطر الاقتصادية الكلية التي يتعرض لها بلد ما على المدى القريب. ويجري تحديث هذا التمرين بصفة منتظمة، وهو يشمل معظم البلدان الأعضاء على مختلف مستويات الدخل.

وخلال العِقد الأول من القرن الحادي والعشرين، حدَّث صندوق النقد الدولي وظيفة الرقابة ووسع نطاقها في سياق تزايد الاختلالات الاقتصادية الكلية العالمية، عندما أصبحت فوائض الحساب الجاري في آسيا (في الغالب) تعادل عجز الحساب الجاري في الولايات المتحدة. وزاد الصندوق من دقة أدواته التحليلية من أجل الرقابة على أسعار الصرف، بما في ذلك عن طريق وضع نموذج لتحليل عمليات تقييم العملات في سياق متعدد الأطراف بشكل واضح.

أوجه قصور كبيرة

على الرغم من هذا التقدم الكبير، أماطت الأزمة المالية العالمية في 2008-2009 اللثام عن أوجه قصور كبيرة في وظيفة الرقابة التي يمارسها الصندوق. فكما أقر الصندوق في عام 2009، "قدَّرت الرقابة المخاطر المجتمعة على مستوى القطاعات، وأهمية الآثار المرتدة على القطاع المالي والتداعيات بأقل من حجمها إلى حد كبير." ولمواجهة هذا الأمر، قدم الصندوق تقارير التداعيات لما يطلق عليه اسم الاقتصادات الخمسة المؤثرة على النظام المالي (الصين، ومنطقة اليورو، واليابان، والمملكة المتحدة، والولايات المتحدة) التي تحولت لاحقا إلى منهج أكثر مواضيعية يركز على قضايا التداعيات الرئيسية. وقد استحدث أيضا شرطا لمناقشة صريحة للمخاطر في مشاورات المادة الرابعة. ونظرا للسرعة التي يمكن بها لتطورات القطاع المالي أن تثير الأزمات وتؤدي إلى انتشارها، اُدمج تحليل الاستقرار المالي بشكل أكثر منهجية في وظيفة الرقابة. وفي عام 2010، أصبحت التقييمات المنتظمة ضمن برنامج تقييم القطاع المالي إلزامية على البلدان التي لديها قطاعات مالية مؤثرة على النظام المالي. ومن ثم، اتسع نطاق تركيز رقابة الصندوق ليشمل السياسات ذات الصلة بالاستقرار المحلي واستقرار موازين المدفوعات في البلدان الأعضاء، وأيضا الاستقرار العالمي من خلال أثر التداعيات.

رقابة الصندوق باختصار

يُجري صندوق النقد الدولي عمليات فحص دورية لسلامة اقتصادات البلدان الأعضاء من خلال "مشاورات المادة الرابعة"، أو الرقابة الثنائية. وفي سياق هذه العملية، التي تُنفَّذ أيضا على المستويين العالمي والإقليمي، يسعى الصندوق إلى تحديد المخاطر المحتملة، ويوصي بما يلزم من تعديلات ملائمة في السياسات للحفاظ على الرخاء الاقتصادي - لدعم النمو الاقتصادي وتعزيز الاستقرار المالي.

وخلال عملية عادية لمناقشة المادة الرابعة، يُجري خبراء صندوق النقد الدولي تقييما للتطورات الاقتصادية الكبرى، ويناقشون استجابات السلطات الوطنية المقررة على مستوى السياسات (والتداعيات المحتملة للسياسات)، ويرفعون تقارير إلى المجلس التنفيذي، ومن ثم يقومون بتضمين مجموع الرؤى المتعمقة والخبرات والمشورة للمجتمع الدولي من أجل التصدي للتحديات الاقتصادية والمالية التي تواجه البلد العضو المعني. ومن خلال رقابته الثنائية، يسعى صندوق النقد الدولي إلى إكمال وجهات نظر صناع السياسات الوطنيين وإضافة قيمة عن طريق تقديم منظور فني خارجي، يسترشد بتجارب قطرية مقارنة.

وبالإضافة إلى ذلك، يعزز الصندوق الاستقرار الاقتصادي والمالي في جميع أنحاء العالم عن طريق الرقابة متعددة الأطراف. فهو يتابع التطورات التي يشهدها النظام الاقتصادي والمالي، ويحلل التداعيات العابرة للحدود في الاقتصادات المؤثرة على النظام المالي، ويعزز تبادل المعلومات، ويقدم مشورة بشأن السياسات.

وخلال الجزء الأخير من العِقد الماضي، واصل الصندوق تعديل أنشطته الرقابية استجابة للإنتقادات بشأن عدم تصميم مشورته المتعلقة بالسياسات على نحو ملائم حسب ظروف البلدان الأعضاء المختلفة. وفي عام 2020، قدم إطار السياسات المتكامل، الذي ينظر في الدور المشترك الذي تؤديه السياسة النقدية وسياسة سعر الصرف والسياسات الاحترازية الكلية وسياسة إدارة التدفقات الرأسمالية، والتفاعلات فيما بينها وكذلك بينها وبين السياسات الأخرى. ويُستخدم هذا الإطار لتقييم السياسات التي تنفذها البلدان، ومعايرة مشورة الصندوق وفقا لذلك. وبهذا، انصب تركيز الصندوق بشكل أكبر على توصيات مخصصة ومفصلة في تحليل ثنائي، استنادا إلى تحليل الظروف الخاصة بالبلد المعني. وتقدم التقارير الرئيسية المتعددة الأطراف أيضا الآن تحليلات وتوصيات متنوعة للبلدان في مختلف فئات الدخل، تُستكمل بآفاق الاقتصاد الإقليمي التي تقدم مشورة موجهة بشأن التحديات الرئيسية على مستوى السياسات التي تواجه كل منطقة جغرافية.

صلابة أكبر

في الآونة الأخيرة، كان على وظيفة الرقابة في الصندوق التعامل مع مزيج من جائحة لا تحدث إلا مرة واحدة في القرن، وزيادة التوترات الجغرافية-السياسية، وحروب جديدة، وتشرذم جغرافي-اقتصادي، وزيادة كبيرة في معدلات التضخم وأسعار الفائدة، بالإضافة إلى تباطؤ الآفاق بشأن النمو على المدى المتوسط، ولا سيما في اقتصادات الأسواق الصاعدة والاقتصادات النامية. وقد أدت هذه الصدمات إلى خسائر فادحة في الأرواح والأرزاق، وكانت البلدان والأشخاص المعرضين للمخاطر الأشد تضررا.

وفي الواقع، أظهر معظم اقتصادات الأسواق الصاعدة قدرة على الصمود في مواجهة هذه الاضطرابات في الآونة الأخيرة أكبر من قدرتها على الصمود في مواجهة الأزمة المالية العالمية. وتشكل السياسات الاقتصادية الكلية والسياسات المالية السليمة والمؤسسات القوية، التي تتسق مع مشورة صندوق النقد الدولي بشأن السياسات، عوامل مهمة تساهم في هذه القدرة على الصمود.

وفي المرحلة المقبلة، تتمثل الأولويات العاجلة لوظيفة الرقابة التي يمارسها صندوق النقد الدولي في مساعدة جميع البلدان الأعضاء على تحقيق خفض مستدام في مستويات التضخم، وتنفيذ عملية كافية لضبط أوضاع المالية العامة، وضمان الاستقرار النقدي، والتصدي لأعباء الديون المفرطة ومواطن الضعف في القطاع المالي في أعقاب الجائحة. ونظرا لانخفاض الإنتاجية وتدهور آفاق النمو على المدى المتوسط، تعمل الرقابة التي يمارسها الصندوق على إعداد مشورة بشأن السياسات بغية تنشيط النمو، مع الحفاظ في الوقت نفسه على المكاسب التي تحققت بشق الأنفس من التكامل الاقتصادي على مدى عقود.

وعلى الرغم من ذلك، ثمة حاجة إلى مزيد من العمل إذا كان لرقابة الصندوق أن تساعد البلدان الأعضاء بشكل فعال على اجتياز التحولات المستجدة. ويتطلب ذلك التركيز على التحليل الاقتصادي الكلي والمشورة بشأن السياسات ، بالتنسيق الوثيق مع المؤسسات الدولية الأخرى ذات الصلة.

وفي مجال المناخ، اعتمد صندوق النقد الدولي استراتيجية في عام 2021 تعكس إدراكا متزايدا للتهديد الذي يفرضه تغير المناخ على النمو والاستقرار المالي. ومنذ ذلك الحين، أحرز الصندوق تقدما كبيرا في إدماج قضايا المناخ في تحليله متعدد الأطراف والرقابة الثنائية.

وفي الوقت نفسه، يتيح الذكاء الاصطناعي فرصة واعدة للتعاون الدولي من أجل تعظيم المنافع وإدارة المخاطر المتصلة به على حد سواء. ويمكن لمجموعة من المبادئ العالمية للاستخدام المسؤول للذكاء الاصطناعي تحقيق هذا الأمر. وهنا، يمكن أيضا لرقابة الصندوق المساعدة في توقع التأثيرات الاقتصادية الكلية، وتحديد التداعيات، وتعزيز استجابات حذرة على مستوى السياسات.

وفي حين ينتهج عدد أكبر من البلدان سياسات صناعية لتعزيز القدرة التنافسية في عالم أكثر تشرذما، عملت رقابة الصندوق على تقييم التأثيرات الاقتصادية لهذه السياسات وتحليل تداعياتها العابرة للحدود. وغالبا ما يكون الضرر الاقتصادي الناجم عن هذه السياسات أكبر من نفعها، وهي تثير انتقاما من منطلق مبدأ "العين بالعين" يحد من صافي المنافع، ويمكن أن تغلب عليها المصالح الخاصة (دراسة.(Ilyina, Pazarbasioglu, and Ruta 2024  وفي مجال الرقابة هذا، كما في جميع المجالات الأخرى، يجب على الصندوق الاستمرار في إعلان الحقائق بلا مواربة.

وبطبيعة الحال، ستثبت صعوبة إدارة البلدان لجميع هذه التحديات من دون توافر استراتيجيات النمو الشامل للجميع. وفي ظل اتساع الفجوة في مستويات الدخل في ما بين البلدان وداخلها، تكون الحاجة إلى عكس مسار تراجع الإنتاجية والنمو ملحة. وقد اقترحنا إطارا لتحديد أولويات الإصلاحات الهيكلية الكلية وتتابعها لزيادة وتيرة النمو، وتخفيف المفاضلات بين السياسات، ودعم التحول الأخضر في اقتصادات الأسواق الصاعدة والاقتصادات النامية (دراسة Budina and others 2023). ويوضح هذا الإطار أن إعطاء أولوية لإزالة أشد القيود إلزاما على النشاط الاقتصادي يمكن أن يدفع تأثيرات الناتج العالمي بنسبة تبلغ نحو 4% في ما لا يزيد عن عامين. ويظهر عملنا الذي يدمج القضايا المتعلقة بنوع الجنس ضمن الرقابة أن تقليص الفجوة بين الجنسين في أسواق العمل وإمكانية الحصول على التمويل يحقق مكاسب كبيرة من أجل النمو والاستقرار.

سعي من أجل الرخاء

إن رقابة الصندوق التي ظل يمارسها على مدى ثمانية عقود مضت تقدم رؤى متعمقة قيِّمة. وإجراء تقييم قوي للسياسات الاقتصادية أمر بالغ الأهمية لكسب المصداقية والفعالية لدى صناع السياسات. ويجب أن تظل الرقابة تستبق التطورات وأن تتوقع المشكلات التي تهدد الاستقرار المحلي أو الخارجي، بما في ذلك التداعيات من السياسات التي تنتهجها البلدان المؤثرة على النظام المالي. ويُعزى هذا الأمر إلى أن تحديد السياسات الصحيحة وتنفيذها وبدء العمل بها يستغرق وقتا. ويتمثل جوهر الرقابة في مرونتها وسرعة استجابتها لاحتياجات البلدان الأعضاء على اختلافها.

وبما أننا نخوض غمار عالم يتزايد فيه التشرذم وعدم اليقين، فإن دور رقابة الصندوق يكتسب مزيدا من الأهمية. فهي لا تقتصر على حماية الاقتصاد - وإنما تتعلق بجعلنا نتحد جميعا في مسعى من أجل مستقبل مزدهر في ظل اقتصاد عالمي ديناميكي، ويتمتع بالاستقرار في الوقت نفسه. وبهذا، ستظل وظيفة الرقابة التي يمارسها صندوق النقد الدولي سلعة عامة عالمية ضرورية ولها قيمتها.

جيلا بازارباشيوغلو هي مدير إدارة الاستراتيجيات والسياسات والمراجعة في صندوق النقد الدولي.

الآراء الواردة في هذه المقالات وغيرها من المواد المنشورة تعبر عن وجهة نظر مؤلفيها، ولا تعكس بالضرورة سياسة صندوق النقد الدولي.