"توجيه السفينة، وليس الانسياق مع الريح": إدارة المخاطر المتزايدة حتى يظل الاقتصاد على المسار الصحيح
1 أكتوبر 2018
الضيوف الكرام، السيدات والسادة، صباح الخير ومرحباً بكم.
فعاليتنا اليوم تمثل المرحلة قبل الأخيرة فيما نسميه "رحلتنا إلى إندونيسيا" – والمرحلة الأخيرة هي اجتماعاتنا السنوية المقرر عقدها الأسبوع القادم في بالي.
إنها لحظة صعبة بالنسبة لإندونيسيا، هذا البلد الذي تمكن من تحقيق تحول في اقتصاده خلال العقود الأخيرة، فأطلق طاقته الديناميكية، واستفاد من روعة الإبداع والتنوع لدى شعبه. بلد غالباً ما يجد نفسه في مواجهة صعبة مع الكوارث الطبيعية.
وكلنا يستطيع أن يتعلم الكثير من إندونيسيا وشركائها في مجموعة آسيان – وخاصة حين يتعلق الأمر ببناء الصلابة، واعتناق الانفتاح، ومد الجسور عبر الحدود.
ومن الدروس المهمة في هذا السياق أن البلدان إذا عملت معاً، فإن احتمالية نجاحها في تعزيز رفاهية شعوبها تصبح أكبر بكثير مما يمكن أن تكون عليه إذا عملت فرادى.
وقد رأينا هذا بوضوح أثناء الأزمة المالية العالمية.
إن هذه الروح التي يقوم عليها العمل متعدد الأطراف ترصدها بدقة هذه العبارة الإندونيسية الجميلة - “gotong royong”، أي "العمل المشترك صوب هدف موحد."
هذه الروح هي ما نحتاجه أكثر من أي وقت مضى لمواجهة التحديات القادمة.
وسأتحدث هذا الصباح عن ثلاثة من هذه التحديات: (1) بناء نظام تجاري أفضل؛ و (2) الوقاية من اضطرابات المالية العامة والقطاع المالي؛ و (3) إعادة بناء الثقة في صنع السياسات والمؤسسات.
التجارة والاضطرابات والثقة:
1- مناخ اقتصادي متغير
وقبل أن أتحدث عن هذه التحديات، أود أن أقدم عرضاً موجزاً للوضع الراهن عشية اجتماعاتنا السنوية.
أولاً، الأخبار السارة. فلا يزال النمو العالمي في أعلى مستوياته منذ عام 2011 حين كانت الاقتصادات تتعافى في مرحلة ما بعد الأزمة. وتُواصِل البطالة الانخفاض في معظم البلدان، كما تراجعت نسبة سكان العالم الذين يعيشون في فقر مدقع إلى مستوى منخفض قياسي يبلغ أقل من 10%.[1]
وبعبارة أخرى، يواصل العالم تحقيق توسع واعد يبشر بارتفاع الدخول ومستويات المعيشة.
إذن هل كل شيء على ما يرام؟ هو كذلك حتى هذه اللحظة فقط.
فبالنسبة لمعظم البلدان، أصبح تعزيز الرخاء غاية أصعب، لأن المناخ الاقتصادي العالمي بدأ يتغير. ما معنى هذا؟
قلت منذ عام إن "الشمس مشرقة – وهو الوقت المناسب لإصلاح السقف". ومنذ ستة أشهر، أشرت إلى غيوم المخاطر التي تلوح في الأفق.
واليوم، بعض هذه المخاطر بدأ يتحقق.
فهناك دلائل تشير بالفعل إلى أن النمو العالمي استقر عند مستوى ثابت. وهو أقل تزامناً من ذي قبل، مع مشاركة عدد أقل من البلدان في مسيرة التوسع.
وفي يوليو، توقعنا أن يبلغ النمو العالمي 3.9% لعامي 2018 و 2019. لكن الآفاق أصبحت أقل إشراقاً بعدئذ، كما سترون في تنبؤاتنا المحَدَّثة عند صدورها الأسبوع القادم.
ومن القضايا الأساسية حالياً أن الكلمات عالية النبرة تحولت إلى حقيقة جديدة متمثلة في حواجز تجارية فعلية. ولا يؤدي هذا إلى الإضرار بالتجارة نفسها فقط، بل بالاستثمار والصناعة التحويلية أيضاً، لأن عدم اليقين بشأن التجارة لا يزال في صعود مستمر.
وتحقق الولايات المتحدة حتى الآن نمواً قوياً يدعمه التوسع المالي المساير للاتجاهات الدورية والأوضاع المالية التي لا تزال ميسرة – وهما مصدران محتملان للخطر في دورة اقتصادية تزداد نضجاً.
غير أن هناك دلائل تشير إلى تباطؤ النمو في الاقتصادات المتقدمة الأخرى، وخاصة في منطقة اليورو، وفي اليابان إلى حد ما.
ولا تزال آسيا الصاعدة تحقق نمواً بمعدلات أعلى من المناطق الأخرى، لكننا نرى إشارات على حدوث بعض التراجع في الصين، وهو ما سيزداد تفاقماً بسبب النزاعات التجارية.
وفي نفس الوقت، تتصاعد التحديات في عدد من بلدان الأسواق الصاعدة والبلدان منخفضة الدخل – بما في ذلك أمريكا اللاتينية والشرق الأوسط وإفريقيا جنوب الصحراء.
وكثير من هذه الاقتصادات تواجه ضغوطاً بسبب ارتفاع سعر الدولار وتضييق الأوضاع في الأسواق المالية. وبعضها يواجه الآن تدفقات رأسمالية خارجة.
ولتوضيح الصورة، نحن لا نستشرف اتساع نطاق العدوى المالية – حتى الآن – لكننا نعلم أيضاً أن هذه الأوضاع يمكن أن تتغير بسرعة.
وإذا زاد احتدام النزاعات التجارية الجارية، فمن الممكن أن تسبب صدمة أوسع نطاقاً في الاقتصادات الصاعدة والنامية.
فما الذي ينبغي القيام به إذن؟
في مثل هذه الأوقات، يمكن أن يستوحي صناع السياسات الحل من كلمات شاعر أمريكي عظيم، هو أوليفر وندل هولمز الأب الذي قال ذات مرة:
"الوصول إلى الميناء يتطلب الإبحار مع الريح في بعض الأحيان وضدها في أحيان أخرى – لكن علينا الإبحار، وليس الانسياق مع الريح ولا البقاء منتظرين.
ورسالتي الأساسية اليوم هي أننا بحاجة إلى إدارة المخاطر وتعجيل الإصلاحات، وتحديث النظام متعدد الأطراف.
أو بالتعبير المستخدم في عالم الملاحة، نحتاج إلى توجيه السفينة، وليس الانسياق مع الريح!
2- توجيه السفينة، وليس الانسياق مع الريح
ويعني هذا، فوق كل شيء، اغتنام الفرصة الآن – بينما النمو لا يزال قوياً نسبياً – لتنفيذ إصلاحات السياسة الجريئة التي يتطلبها دعم الزخم الاقتصادي والحفاظ عليه.
وكما قلت من قبل "علينا إصلاح السقف" – إنه التصرف الصحيح الآن أكثر من أي وقت مضى.
فكيف يمكن القيام بهذا عملياً؟ بمعالجة ثلاثة تحديات أشرت إليها في البداية – التجارة والاضطرابات والثقة.
أ) بناء نظام تجاري عالمي أفضل
أولاً، التجارة: بتعبير بسيط، ينبغي أن تعمل البلدان معاً لبناء نظام تجاري عالمي أكثر قوة وإنصافاً وملاءمة للمستقبل.
وهناك الكثير على المحك، لأن قطع سلاسل القيمة العالمية يمكن أن يقود إلى أثر مدمر على كثير من البلدان، بما فيها البلدان المتقدمة. ويمكن أيضاً أن يمنع البلدان الصاعدة ومنخفضة الدخل من تحقيق إمكاناتها الكاملة.
والكثير على المحك لأن قيود الاستيراد تمنع التجارة من القيام بدورها الأساسي في دفع الإنتاجية ونشر التكنولوجيات الجديدة والحد من الفقر.
ولهذا نحتاج إلى العمل معاً لنزع فتيل التصعيد في النزاعات التجارية الجارية والنجاح في تسويتها.
ورغم الإغراء الذي ينطوي عليه الإبحار المنفرد، يخبرنا التاريخ بأن على البلدان مقاومة دعاوى الاكتفاء الذاتي – لأنه يقود السفينة إلى الدمار، كما تقول أساطير الإغريق.
إن ما نحتاجه في الفترة المقبلة هو "قواعد أذكى" للتجارة تضمن الكسب للجميع. نحتاج إلى إصلاح النظام، لا تدميره.
ويتمثل التحدي الآني في تعزيز القواعد القائمة. ويتضمن هذا النظر إلى الآثار التشويهية التي يتسبب فيها الدعم المقدم من الدولة، ومنع إساءة استخدام المراكز المهيمنة، وتحسين إنفاذ حقوق الملكية الفكرية.
وبالنسبة لهذه القضايا، يمكن أن نستمد التشجيع من تنامي عدد المناقشات والمقترحات، وآخرها من كندا والاتحاد الأوروبي. إنها خطوات إيجابية، وهناك عمل أكثر يتعين القيام به.
فعلى سبيل المثال، إذا تعذر الوصول إلى اتفاق بين كل البلدان، يمكن للحكومات استخدام صفقات تجارية أكثر مرونة – حيث تتفق البلدان المتماثلة فكرياً على العمل ضمن إطار منظمة التجارة العالمية.
وبالطبع، فإن إصلاح النظام يعني أيضاً جعله ملائماً للمستقبل. وهنا أيضاً، يمكن استخدام اتفاقيات التجارة المرنة لإطلاق الإمكانات الكاملة للتجارة الإلكترونية وغيرها من الخدمات التجارية، مثل الهندسة والاتصالات والنقل.
ويوضح أحدث تحليلاتنا [2] أننا إذا خفضنا تكاليف التجارة في مجال الخدمات بنسبة 15%، يمكننا رفع إجمالي الناتج المحلي الكلي لبلدان مجموعة العشرين بأكثر من 350 مليار دولار أمريكي هذا العام. ويمكن أن يكون هذا مساوياً لإضافة بلد أخرى بحجم جنوب إفريقيا إلى مجموعة العشرين.
تلك هي أنواع المكاسب الموجودة في المتناول – إذا عملنا معاً، وإذا ركزنا على خلق نظام أفضل للتجارة العالمية. وهناك إقبال واضح على تحسين التجارة وتوسيع نطاقها. ويدلل على هذا العزم ما شهدناه من إبرام اتفاقية التجارة الإفريقية وموجة المفاوضات الثنائية في الآونة الأخيرة.
ب) الوقاية من اضطرابات المالية العامة والقطاع المالي
والتحدي الثاني هو الوقاية من الاضطرابات على مستوى المالية العامة والقطاع المالي.
وإليكم السؤال المحوري: بعد عشر سنوات من الأزمة المالية العالمية، هل أصبحنا آمنين أكثر من ذي قبل؟ وإجابتي هي "نعم"... لكننا لسنا آمنين بالقدر الكافي. وعلينا مواصلة الدفع لتنفيذ جدول أعمال التنظيم المالي – ومقاومة الارتداد إلى الوراء.
وبالإضافة إلى ذلك، فبعد عقد من الأوضاع المالية الميسرة نسبياً، بلغ الدين مستويات مرتفعة جديدة في البلدان المتقدمة والصاعدة ومنخفضة الدخل.
والواقع أن الدين العالمي – سواء العام أو الخاص – قد بلغ مستوى مرتفعاً قياسياً هو 182 تريليون دولار أمريكي – بزيادة تكاد تصل إلى 60% عن عام 2007.
وقد أدى هذا التراكم إلى جعل الحكومات والشركات أكثر عرضة للتأثر بتضييق الأوضاع المالية.
وقد بدأت الاقتصادات الصاعدة والنامية تشعر بتأثيره بالفعل، حيث بات عليها التكيف مع عودة السياسة النقدية العادية في العالم المتقدم.
بل إن هذه العملية يمكن أن تزداد صعوبة إذا تسارعت فجأة، حيث يمكن أن تؤدي إلى عمليات تصحيح في الأسواق، وتحركات حادة في أسعار الصرف، ومزيد من التراجع للتدفقات الرأسمالية.
وتشير تقديراتنا[3] إلى أن الاقتصادات الصاعدة – باستثناء الصين – يمكن أن تواجه خروجاً لتدفقات محافظ الاستثمار في سندات الدين بقيمة تصل إلى 100 مليار دولار أمريكي – وهو ما يكاد يعادل حجم التدفقات المماثلة أثناء الأزمة المالية العالمية.
ويجب أن نعتبر هذا صيحة تحذير.
إننا بالتأكيد لم نصل إلى هذ المرحلة بعد. لكن بعض البلدان بدأت تواجه أمواجاً عاتية بالفعل. والصندوق يعمل عن كثب مع هذه الاقتصادات من خلال التحليل والمشورة وتقديم المساعدة المالية حيثما دعت الحاجة. وسنواصل العمل على هذا المنوال.
غير أن توجيه السفينة يعني بالنسبة لمعظم البلدان خلق حيز أكبر للتصرف حين يحدث الهبوط القادم الذي لا محالة آت.
ويمكن للبلدان الصاعدة أن تخلق هذا الحيز بتخفيض المخاطر الناشئة عن دين الشركات المرتفع، مع ضرورة بذل مزيد من الجهود لجعل الاقتراض الحكومي[4] أكثر ملاءمة لقدرة البلدان منخفضة الدخل على الاستمرار في تحمله.
وفي كثير من الحالات، فإن خلق حيز أكبر يعني السماح لأسعار الصرف باستيعاب بعض الضغوط الناتجة عن انعكاس مسار التدفقات الرأسمالية.
وفي هذا الصدد، يوضح تحليل الصندوق[5] أن البلدان التي تطبق أسعار صرف أكثر مرونة تكبدت خسائر أقل في الناتج بعد الأزمة المالية العالمية. وخلص تحليلنا إلى أن الاقتصادات تكون أكثر صلابة حين تكون سياستها النقدية موضع ثقة أكبر وحين تتوخى بنوكها المركزية المستقلة الإفصاح عن التطورات بوضوح.[6]
وينبغي للاقتصادات المتقدمة أن تتخذ إجراءات من جانبها. فبإمكانها خلق الحيز الذي تحتاجه عن طريق تخفيض عجز الحكومة ووضع الدين العام على مسار تنازلي تدريجي. وينبغي القيام بذلك على نحو عادل ومواتٍ للنمو – من خلال زيادة كفاءة الإنفاق وضمان تحمُّل الجميع عبء التصحيح.
وفي نفس الوقت، ينبغي ألا تُغفِل البلدان جانباً آخر من ميزانياتها العمومية – وهو الثروة العامة التي تنطوي عليها الأصول المالية للحكومة، والشركات العامة، والموارد الطبيعية.
وفي هذا الخصوص، أجرى الصندوق تحليلاً جديداً[7] يغطي 31 بلداً ويوضح أن مجموع الأصول العامة يتجاوز 100 تريليون دولار أمريكي، أي أكثر من ضِعف إجمالي الناتج المحلي لتلك البلدان.
ويمكن أن يؤدي تحسين إدارة هذه الأصول العامة إلى إيرادات إضافية تعادل حوالي 3% من إجمالي الناتج المحلي سنوياً – وهي نسبة كبيرة. بل إنها تساوي ضريبة الشركات التي تحصلها الاقتصادات المتقدمة سنوياً.
وهنا أيضاً لا تتعلق المسألة بالإبحار المنفرد، حيث يتخذ كل بلد إجراءات لمواجهة قضاياه الوطنية فقط. فالوقاية من هذه الاضطرابات المحتملة تتطلب من البلدان العمل معاً بطريقة تعاونية متماسكة.
ومثال ذلك أننا نعلم أن الحكومة تستطيع جعل اقتصاداتها أقل عرضة للتدفقات الرأسمالية المربكة من خلال تقليص اختلالات الحساب الجاري. كيف؟ بزيادة الاستثمار العام في البلدان التي تتمتع بمالية عامة قوية وتخفيض عجز المالية العامة في البلدان الأخرى. هذه الإجراءات على مستوى السياسة الوطنية تتكامل فيما بينها على المستوى العالمي.
وتتطلب الوقاية من هذه الاضطرابات أيضاً شبكة أمان مالي عالمية قوية، مما يعني بدوره ضرورة أن يكون الصندوق في قلب هذه الشبكة، جاهزاً بالأدوات اللازمة والموارد الكافية لأداء دوره. إنه مطلب أساسي لضمان قدرة الصندوق على القيام بدوره الفريد في مساعدة البلدان على التعامل مع الأزمات القادمة.
وهذه هي الأولوية القصوى بالنسبة لي – إلى جانب إجراء مزيد من التعديلات في حوكمة الصندوق حتى تعكس التغير في ديناميكية اقتصادات بلداننا الأعضاء.
ج) إعادة بناء الثقة في المؤسسات وصنع السياسات
وأنتقل الآن إلى التحدي الثالث – إعادة بناء الثقة في المؤسسات وصنع السياسات. إنه أمر ضروري لتحقيق نمو أكثر استمرارية يقتسم ثماره الجميع على نطاق أوسع.
ويُعزى تراجُع الثقة إلى عدة أسباب. أولها وأبرزها هو أن المهمشين لا يزالون كثر.
ففي كثير جداً من البلدان، أخفق النمو في تحسين المستويات المعيشية للأناس العاديين وجَعْل الآفاق المنتظرة لهم أكثر إشراقاً. وفي كثير جداً من الحالات، أصبح العمال والأسر مقتنعين بوجود تلاعب في النظام وبأن كل الفرص موجهة لغير صالحهم.
وليس هذا مستعصياً على الفهم: فمنذ عام 1980، يستحوذ أصحاب أعلى 1% من الدخل العالمي على ما يعادل ضِعف المكاسب التي يحققها النمو لأصحاب أقل 50% من الدخل.
وعلى مدار تلك الفترة، شهد كثير من الاقتصادات المتقدمة تصاعداً في عدم المساواة في الدخل وزيادة محدودة في الأجور – وهو ما يرجع في جانب منه إلى التكنولوجيا، وفي جانب آخر إلى الاندماج العالمي، وفي جانب ثالث إلى السياسات التي تعطي أفضلية لرأس المال على حساب العمل.
ويرتبط بهذا مصدر آخر للسخط العام، وهو ذكريات الأزمة المالية العالمية التي لا تزال حية في الأذهان. فكثير من الناس يرون هذه الأزمة باعتبارها الخيانة الكبرى لثقة الجماهير – نظراً للتصور الشائع بأن من تسببوا في الأزمة لم يتحملوا عواقبها، بينما كان الناس العاديون هم من دفع ثمنها الباهظ.
والعامل الثالث هو الفساد – تلك الآفة الاجتماعية والاقتصادية التي تجعل من الصعب على البلدان اتخاذ قرارات جماعية صائبة. ولا محالة أن يؤدي ذلك إلى كبح ديناميكية الاقتصاد، مما يتسبب بدوره في إضعاف الثقة وإدخال الاقتصاد في حلقة سلبية مفرغة.
وبالطبع، في عصر التغير التكنولوجي السريع – حيث تكتسح الرقمنة والذكاء الاصطناعي كل الصناعات - سنحتاج إلى ثقة أكبر من الجماهير.
وهناك تقديرات متنوعة لعدد الوظائف التي يمكن أن نكسبها أو نخسرها بسبب التكنولوجيا. ومن النتائج المدهشة التي خلص إليها تحليلنا الأخير أن النساء يمكن أن يتضررن بشدة – لأن 26 مليون وظيفة من وظائفهن معرضة للخطر في البلدان أعضاء "منظمة التعاون والتنمية في الميدان الاقتصادي" (OECD) وحدها.
لماذا؟ لأن النساء غالباً ما تؤدين أعمالاً روتينية أكثر مما يفعل الرجال – وهي بالضبط نفس الوظائف الأرجح أن تتأثر بالتحول إلى التشغيل الآلي.
ولهذا سيتعين على الحكومات تحمل مسؤولية أكبر عن التكلفة الإنسانية التي تسفر عنها الاضطرابات، سواء كانت ناتجة عن التكنولوجيا أو التجارة أو الإصلاح الاقتصادي.
فما الذي يمكن عمله إذن؟ يجب أن يكون الاستثمار في البشر من الأولويات – الاستثمار في الصحة والتعليم، في نظم الحماية الاجتماعية.
وتكتسب هذه التحسينات في رأس المال البشري والاجتماعي والمادي أهمية خاصة في البلدان منخفضة الدخل، حيث يتطلب الأمر قدراً كبيراً من النفقات الجديدة لتحقيق أهداف التنمية المستدامة – وقد قدرنا هذا الإنفاق الإضافي مؤخرا بمبلغ يصل إلى 520 مليار دولار مع حلول عام 2030.[8]
ولا شك أننا بحاجة إلى نظام تعليمي جديد للقرن الحادي والعشرين – للحد من عدم المساواة في الفرص ومساعدة الجميع على الازدهار في العصر الرقمي.
نحتاج إلى زيادة الاستثمار في التدريب وشبكات الأمان الاجتماعي – حتى يتمكن العاملون من النهوض بمهاراتهم، والانتقال إلى وظائف أعلى جودة، وتحقيق دخل أكبر.
وحيثما أمكن، نحتاج إلى زيادة التصاعدية الضريبية ورفع الحد الأدنى للأجور. وفي جميع أنحاء العالم، نحتاج إلى نظام ضريبي أذكى للشركات متعددة الجنسيات حتى نضمن سداد كل طرف لنصيبه العادل.[9]
ولا شك طبعاً أننا بحاجة لحوافز ضريبية لزيادة فرص النساء في سوق العمل.
وتمثل استعادة الثقة أولوية أساسية أخرى حتى يتسنى تنفيذ السياسات والإصلاحات التي لا تعزز النمو فقط، إنما تعززه على أساس احتوائي أيضاً.
ويعني هذا أن كل البلدان يجب أن تتكاتف لترويض خطر التغير المناخي. فإذا كنا معنيين برخاء الأجيال القادمة، إذا كنا معنيين بمحنة اللاجئين بسبب تغير المناخ، يجب أن نكون جادين في تسعير انبعاثات الكربون لاحتساب تكاليفها الاجتماعية.
والصندوق يدعم بلدانه الأعضاء في هذا المسار وكثير من المسارات الملحة الأخرى، من خلال المشورة بشأن السياسات وتنمية القدرات وإتاحة منبر لتبادل الممارسات الفضلى والأفكار الجديدة.
ويتضمن هذا مساعدة بلداننا الأعضاء على خوض غمار التيارات التي يموج بها عالم التكنولوجيا المالية والتي تتسم بتقلباتها السريعة.
وقد قمنا، مع البنك الدولي والشركاء الآخرين، بوضع ما أسميناه "جدول أعمال بالي للتكنولوجيا المالية"، ومن المزمع صدوره أثناء اجتماعاتنا السنوية الأسبوع القادم. ويمثل جدول الأعمال هذا خطة أولية لصناع السياسات الذين يسعون لإدارة المخاطر الجديدة، مع تسخير إمكانات التكنولوجيا المالية بما يعود بالنفع على الجميع – وليس فقط الأثرياء أو أصحاب العلاقات النافذة.
وهذا مثال آخر على ما يمكننا عمله لتوثيق التعاون الدولي الأكثر شمولاً لجميع الأطراف، والأكثر انفتاحاً وتمثيلاً للجميع، والأكثر فعالية في تلبية احتياجات المواطنين.
وهذا ما أسميه "العمل التعددي الجديد." وأنا مقتنعة بأننا نحتاج إليه أكثر من أي وقت مضى لمعالجة تحديات التجارة والاضطرابات والثقة.
خاتمة
وأختتم كلمتي بتوجيه الشكر إلى المجلس التنفيذي للصندوق وإلى خبرائنا الذين يتميزون بالمهارة والتنوع، ويمثلون أسمى طموحات التعاون الدولي.
وأرى أن هذا المعنى يتجسد في عبارة جميلة هي الشعار الرسمي لإندونيسيا: “Bhinneka Tunggal Ika,” أي "الوحدة مع التنوع".
فحينما نبحر معاً، نكون أقوى وأسرع وأقدر على توجيه السفينة عبر المياه المتلاطمة وتجنب الاصطدام بالصخور التي تتحطم عليها السفن.
والآن، ونحن نبدأ الإبحار في رحلتنا الرائعة إلى إندونيسيا، دعونا نعمل معاً – حتى نتمكن من توجيه دفة اقتصاداتنا في الاتجاه الصحيح والوصول بالجميع، سواء كانوا على متن سفن صغيرة أو كبيرة، إلى ميناء جديد وأفضل.
شكراً لكم.
[1] يشير تحليل جديد للبنك الدولي إلى أن معدل الفقر المدقع انخفض إلى 10% في 2015، وهي أحدث بيانات شاملة، كما تشير تقديرات البنك الدولي إلى استمرار هذا الانخفاض على مدار الثلاث سنوات الماضية.
[2] دراسة الصندوق IMF Paper (November 2018): G20 Report on Strong, Sustainable, Balanced, and Inclusive Growth.
[3] عدد أكتوبر 2018 من تقرير "الاستقرار المالي العالمي".
[4] تقدير جديد من الصندوق: المستوى الأوسط للدين العام بين البلدان منخفضة الدخل ارتفع من 33% من إجمالي الناتج المحلي في 2013 إلى 47%.
[5] عدد أكتوبر 2018 من تقرير "آفاق الاقتصاد العالمي"، الفصل الثاني.
[6] عدد أكتوبر 2018 من تقرير "آفاق الاقتصاد العالمي"، الفصل الثالث.
[7] عدد أكتوبر 2018 من تقرير "الراصد المالي".
[8] يفيد بحث جديد أصدره الصندوق بأن احتياجات التمويل الإضافية تصل إلى حوالي 520 مليار دولار سنوياً في البلدان النامية منخفضة الدخل كمجموعة.
[9] يشير أحد التقديرات الأخيرة إلى أن قرابة 40% من أرباح الشركات متعددة الجنسيات يتم تحويلها سنوياً إلى البلدان ذات الضرائب المنخفضة.