6 min (1744 words) Read

ظل التعليم، ويمكن أن يظل، في صميم جهود الحد من الفقر على مستوى العالم

 

شهد الاقتصاد العالمي تحولا كبيرا على مدى العقود الأربعة المنصرمة. فقد تضاعف نصيب الفرد من إجمالي الناتج المحلي العالمي بالقيمة الحقيقية مدفوعا بصعود كل من الصين والهند، وبالنمو الكبير في بلدان أخرى. وكان كثير من هذه المكاسب من نصيب فقراء العالم. ووفقا لتقديرات البنك الدولي، انخفضت نسبة سكان العالم الذين يعيشون تحت خط الفقر الدولي البالغ 2,15 دولار يوميا من 44% في عام 1981 إلى 9% في عام 2022.

فما سبب هذه التطورات؟ يشير بحث أُجري مؤخرا إلى التعليم بوصفه أحد الدوافع الرئيسية للنمو الشامل للجميع. وقد حدث توسع لا مثيل له في فرص الالتحاق بالدراسة على مدى السنوات الخمسين الماضية في البلدان مرتفعة الدخل والبلدان منخفضة الدخل على حد سواء. وحقق هذا الأمر قدرا كبيرا من مكاسب الإنتاجية، ولا سيما لمن يعيشون في حالة من الفقر. ويساهم التعليم في تحقيق نصف إجمالي النمو الاقتصادي بالكامل وثلثي مكاسب الدخل الحقيقي بين أفقر 20% من سكان العالم منذ عام 1980، استنادا إلى النتائج التي خلُصتُ إليها في دراسة حديثة (دراسة Gethin 2023).

ويدعو هذا الأمر إلى مواصلة التركيز على التوسع في إتاحة إمكانية الحصول على التعليم. وتتيح التكنولوجيا الحديثة، مثل الذكاء الاصطناعي، فرصا هائلة لنمو الإنتاجية والابتكار. إلا أن حجم هذه المكاسب ومن الذي سينتفع بها يتوقفان على توفير قوى عاملة كبيرة وماهرة بشكل كافٍ. ولا يزال توفير التعليم الأساسي للجميع هو أساس السياسة التعليمية في كثير من الاقتصادات النامية - بما لهذا الأمر من نتائج إيجابية. وثمة حاجة اليوم، أكثر من أي وقت مضى، إلى التوسع في إتاحة الحصول على التعليم الثانوي والتعليم ما بعد الثانوي عالي الجودة، من أجل تحقيق العدالة والكفاءة على حد سواء. فالتعليم لا يضمن قدرة البلدان على استخدام الابتكارات العالمية بكفاءة وحسب، إنما يضمن كذلك أنها تتقاسم هذه المنافع على نطاق واسع.

التعليم يحد من الفقر

لطالما كانت أهمية رأس المال البشري في التنمية الاقتصادية محل نقاش بين الاقتصاديين، إلا أنه لا توجد سوى معلومات قليلة عن مدى نجاح التعليم في رفع مستوى معيشة الفقراء. ولمواجهة هذا التحدي البحثي، أنشأتُ قاعدة بيانات جزئية تتكون من مسوح أجرتها حوالي عام 2019 معاهد إحصائية في 150 بلدا. وشملت تلك المسوح القوى العاملة ودخل الأفراد. وقد جمعتُ بين هذه البيانات والمعلومات التاريخية عن تطور التحصيل الدراسي منذ عام 1980.

وقد مكنني هذا الأمر من قياس العلاقة بين الدخل والتعليم، لأول مرة، في عينة تمثل 95% من سكان العالم. ومن ثم، تمكنتُ من أن أحسب، لكل بلد وعلى مختلف مستويات التعليم، مقدار الزيادة في دخل الأفراد مع حصول الناس على مزيد من التعليم. وقد أتاح لي ذلك أيضا مشاهدة كيف يحدد التعليم شكل عدم المساواة في توزيع الدخل - وهو عامل أساسي في تقدير تأثير التعليم على الحد من الفقر.

ويوضح هذا التحليل أن التعليم ظل دافعا قويا للنمو الشامل للجميع على مدى أربعة عقود. ولولا أوجه التقدم في التحصيل الدراسي لما تجاوزت زيادة نصيب الفرد من الدخل في العالم إلى الضعف بين عامي 1980 و2019 نصف ما تحقق بالفعل. ويوضح البحث أيضا أن نسبة تتراوح بين 60% و70% من نمو الدخل الحقيقي بين أفقر 20% من سكان العالم تحققت بفضل التعليم. وما لم تُبذَل جهود كبيرة للتوسع في إتاحة الالتحاق بالدراسة، سيزداد العالم فقرا كما سيزداد عدم المساواة فيه.

لماذا حقق التعليم نجاحا كبيرا في الحد من الفقر على مستوى العالم؟ على خلاف المتوقع، لا يفسر التعليم الأساسي وحده هذه الآثار الكبيرة. فالتعليم العالي أيضا كان له دور رئيسي. والتوسع في إتاحة الحصول على التعليم العالي يتيح لمجموعة أكبر من العمالة تقاسُم الوظائف التي تتطلب مهارات عالية. وفي الوقت نفسه، يوفر هذا التعليم فرص عمل للعمالة محدودة المهارات.

على سبيل المثال، لنأخذ بلدا مثل الهند أو أي بلد من عدد من بلدان إفريقيا جنوب الصحراء لديه قطاع تقليدي كبير وقطاع حديث صغير. في هذه الاقتصادات، يحصل كثير من العمالة على وظائف غير منتجة بشكل كبير في قطاع الزراعة. ومع التوسع في التعليم، يمكن لبعض هؤلاء العاملين الحصول على وظائف تتطلب مهارات أعلى.

وعلى الرغم من هذا، فإن العمالة الزراعية التي تتخلف عن الركب تصبح هي أيضا أكثر إنتاجية. ففي حالة تشغيل عدد كبير من الأشخاص في قطعة الأرض نفسها، قد تكون الإنتاجية الحدية لكل فرد منهم منخفضة للغاية. وحين يترك بعض الأشخاص العمل، ترتفع إنتاجية من تبقى من العمالة الزراعية حيث لا يطرأ تغير يُذكر على الناتج الكلي، وهو ما يؤدي إلى زيادة أجورهم.

ومن هذا المنطلق، يستفيد العاملون من الفئتين من الالتحاق بالدراسة - حتى أن العمالة محدودة المهارات في القطاع التقليدي قد تحقق منافع أكثر. وهذه الآثار هائلة ولها دور رئيسي في تحديد شكل توزيع المكاسب الاقتصادية المتحققة من التعليم. وينبغي أن تكون أساس أي نقاش حول دور التعليم في تحسين الكفاءة وزيادة العدالة على مستوى الاقتصاد.

وتسلط هذه الظاهرة الضوء على نقطة مهمة أخرى. فالآثار الكلية والتوزيعية للتعليم تتوقف على تطور طلب أصحاب العمل على العمالة الماهرة. وفي العقود الأخيرة، عادت أوجه التقدم التكنولوجي الكبير بالنفع على العمالة ذات المهارات العالية أكثر من سواها. وكان هذا التغير التكنولوجي القائم على المهارات دافعا رئيسيا وراء تزايد عدم المساواة في الولايات المتحدة، حيث لم يشهد الالتحاق بالكليات توسعا بالسرعة الكافية لمواكبة الطلب المتزايد على العمالة الماهرة.

وكان لهذا التفاعل بين التعليم والتكنولوجيا دور مهم في تحقيق مكاسب الدخل للفقراء في أنحاء العالم. وبدون إحراز تقدم تكنولوجي، لكان للتعليم آثار أضعف على النمو الاقتصادي. وفي الوقت نفسه، لولا التوسع في التعليم، لأدى التغير التكنولوجي إلى تحقيق نمو ضعيف، ولعاد هذا النمو بالنفع على مجموعة أضيق بكثير من العمالة الماهرة، خاصة في البلدان منخفضة الدخل. وفي عالم يتسم بتزايد الاعتماد المتبادل بين المهارات والتكنولوجيا، ينبغي لسياسات التعليم والابتكار المضي جنبا إلى جنب. وبعبارة أخرى، ليس من المبالغة أن يكون التعليم قد دفع النمو الاقتصادي بشكل أكبر بكثير مما فعل التغير التكنولوجي، أو عولمة التجارة، أو العوامل الأخرى. وفي المقابل، لا يزال الجمع بين الالتحاق بالدراسة والتحولات الاقتصادية الكبرى الأخرى هو العامل الأساسي في الحد من الفقر المدقع.

الإخفاق في التوسع في إتاحة الحصول على التعليم قد يمثل فرصة هائلة ضائعة لتعزيز النمو الشامل للجميع.  
ما بعد التعليم الأساسي

وضعت المؤسسات الدولية والحكومات المختلفة التعليم الأساسي للجميع في صميم جدول الأعمال بشأن السياسات من أجل الحد من الفقر لسببين. أولهما هو وجود تصور عام بأن العائدات على رأس المال البشري آخذة في التناقص، مع تحقيق التعليم الأساسي أعلى المكاسب. والسبب الثاني هو أن زيادة فرص الحصول على التعليم الأساسي تعود بالنفع على الأسر المعيشية منخفضة الدخل أكثر من سواها، ولا سيما في الاقتصادات الأقل نموا التي يقتصر الحصول على التعليم العالي فيها على قلة من الصفوة.

وعلى الرغم من هذا، قد يتبين خطأ هذين القولين في كثير من البلدان. ويوضح البحث الذي أجريتُه، على عكس التصور الشائع، أن العائدات السنوية للدراسة من حيث دخل الشخص لا تكون أكبر في المستويات الأدنى من التعليم. ففي الهند، على سبيل المثال، من شأن سنة من التعليم الابتدائي أن تزيد دخل الفرد بنسبة تتراوح بين 2% و3%، في حين تؤدي سنة من التعليم الثانوي إلى زيادته بنسبة تتراوح بين 6% و8% عما يحققه شخص لم يحصل إلا على التعليم الابتدائي، وتزيد سنة من التعليم ما بعد الثانوي الدخل بأكثر من 13% عما يحققه شخص لم يحصل إلا على تعليم ثانوي.

والحقيقة أن هذه فروق شاسعة لها انعكاسات كبيرة على آثار السياسات التعليمية المختلفة على الاقتصاد الكلي. وعلاوة على هذا، قد تكون للتوسع في إتاحة الحصول على التعليم العالي آثار إيجابية غير مباشرة كبيرة على العمالة الأقل تعليما، على النحو الذي خلص إليه التحليل الذي أجريتُه. ويوضح بحث آخر أن هذه التداعيات كبيرة لا سيما على التعليم ما بعد الثانوي لأنه ليس من السهل إحلال أنواع أخرى من العمالة محل العمالة من الحاصلين على تعليم جامعي. وبعبارة أخرى، تشير العائدات المرتفعة على التعليم ما بعد الثانوي في بلد مثل الهند إلى طلب كبير لم تتم تلبيته على العمالة ذات المهارات العالية. وربما تكون تلبية هذا الطلب هي العامل الأساسي لكل من تعزيز النمو الاقتصادي والحد من عدم المساواة.

وبالطبع، لا يعني هذا الأمر بالضرورة أنه ينبغي للاقتصادات النامية إعادة توجيه مواردها نحو التوسع في إتاحة الحصول على التعليم العالي. وتوجد هنا مفاضلات مهمة. فالتعليم العالي أكثر تكلفة بصفة عامة لكل طالب، ومن الأرجح أن تهاجر العمالة ذات المهارات العالية بعد إتمام الدراسة. وتتمثل النقطة العامة في أنه عند تشكيل السياسة التعليمية، ينبغي للسلطات المعنية توجيه اهتمام كبير إلى الفروق الكبيرة في العائدات على مستويات الدراسة المختلفة وإلى التطور المتوقع في الطلب على العمالة.

الجودة مقابل الكم

يركز نقاش آخر على ما إذا كان يجب الاستمرار في التوسع في إتاحة الحصول على التعليم أو التركيز على تحسين جودة التعليم. وتوضح درجات الاختبارات التي يمكن مقارنتها على المستوى الدولي تدني مستوى جودة التعليم للغاية في الاقتصادات النامية. وقد دفع هذا الأمر المؤسسات الدولية والاقتصاديين بشكل متزايد إلى التأكيد على ضرورة إعطاء أولوية للجودة من أجل تعزيز التنمية الاقتصادية.

ومع هذا، يوضح البحث الذي أجريتُه أن كم التعليم، وليس جودته، كان أساسيا في جهود الحد من الفقر على مستوى العالم. ففي الفترة بين عامي 1980 و2019، تراجعت نسبة المواطنين على مستوى العالم الذين لم يلتحقوا بالدراسة من 35% إلى 15%، في حين زادت نسبة البالغين الذين حصلوا على بعض التعليم الثانوي على الأقل من 25% إلى 60%. وفي الوقت نفسه، ظلت جودة التعليم المستندة إلى درجات الاختبار دون تغيير.

وفي هذا السياق، يشكل برنامج التعليم الابتدائي في المقاطعات في الهند، الذي تم تنفيذه في عام 1994، مثالا توضيحيا بصفة خاصة. وقد اكتشف غوراف خانا، من جامعة كاليفورنيا بمدينة سان دييغو، أن البرنامج حقق توسعا كبيرا في إمكانية الحصول على التعليم الابتدائي، دونما أي أثر على جودة التعليم (راجع دراسة Khanna 2023). غير أنه حقق زيادة بنسبة 13% في المكاسب التي تتحقق من كل سنة دراسية. وفي عالم أدى فيه التوسع في إتاحة الالتحاق بالدراسة إلى خفض الفقر على مستوى العالم بمقدار الثلثين منذ عام 1980، يبدو من غير المرجح أن يكون التركيز على الجودة وحدها كافيا لتعزيز مزيد من النمو الشامل للجميع.

والحقيقة أن صناع السياسات والاقتصاديين أحيانا لا يقيِّمون السياسة التعليمية بالطريقة نفسها التي يتبعونها بشأن العوامل الاقتصادية الأخرى؛ فهم يفترضون أن التعليم يحقق متوسط عائد ثابت يبلغ 10%. إلا أنه في ظل إحراز تقدم تكنولوجي، تكون العائدات أعلى بكثير. والإخفاق في التوسع في إتاحة الحصول على التعليم قد يمثل فرصة هائلة ضائعة لتعزيز النمو الشامل للجميع.

ومن ثم، ينبغي للسلطات المعنية النظر إلى المستقبل حين يتعلق الأمر بالتعليم. وفي ظل التطورات الكبرى في مجال الذكاء الاصطناعي والتكنولوجيا الأخرى الآخذة في الظهور، من المحتمل أن يكون التوسع في إتاحة الحصول على التعليم مفيدا للغاية، ربما أكثر مما كان عليه في الماضي. وكذلك يعني هذا الأمر أنه ينبغي لصناع السياسات العمل بقوة على تعزيز السياسات التي تشجع اعتماد هذه التكنولوجيا. وثمة اعتماد متبادل وثيق بين التعليم والأبعاد الأخرى لأي اقتصاد. ومن غير المرجح أن يكون التعليم وحده مفيدا للغاية ما لم يرتبط بسياسات تكميلية أخرى.

أموري جيثين هو اقتصادي في مجموعة بحوث التنمية في البنك الدولي.

الآراء الواردة في هذه المقالات وغيرها من المواد المنشورة تعبر عن وجهة نظر مؤلفيها، ولا تعكس بالضرورة سياسة صندوق النقد الدولي.

المراجع:

Gethin, Amory. 2023. “Distributional Growth Accounting: Education and the Reduction of Global Poverty, 1980–2022.” World Inequality Lab, Paris.

Khanna, Gaurav. 2023. “Large-Scale Education Reform in General Equilibrium: Regression Discontinuity Evidence from India.” Journal of Political Economy 131 (2).