5 min (1403 words) Read

تعزيز الرابط بين الاقتصاد الكلي والاقتصاد العقاري يجني منافع عدة

 

 

يركز الاقتصاد الكلي، حسب تعريفه، على الصورة الكبيرة؛ ويتجاهل التطورات الجزئية الأصغر على مستوى الشركات أو القطاعات. وفي عام 2007، أشار إدوارد ليمر، أستاذ الاقتصاد بجامعة كاليفورنيا في لوس أنجلوس، إلى التكلفة الباهظة لهذا التجاهل، موضحا عدم جدوى السعي لفهم الدورات الاقتصادية دون الالتفات إلى قطاع العقارات. وحسبما أشار في دراسته التي اشتهرت حاليا“Housing IS the Business Cycle”، فإن سوق الإسكان ذات أهمية بالغة لفهم أسباب حالات الانتعاش والكساد التي تشهدها الاقتصادات. كما أشار إلى أن جميع حالات الركود تقريبا في الولايات المتحدة منذ الحرب العالمية الثانية سبقتها مشكلات في قطاع الإسكان. وهو ما يعني، بعبارة أخرى، أنه من الأفضل للاقتصاد الكلي أن يبني روابط مع اقتصاد الإسكان بدلا من الانفصال عنه بجدار عازل.

وعلى كلٍ، يتضح تأثير الإسكان على الاقتصاد الكلي في كل مكان. فالمدن من أكثر الأماكن إنتاجية في العالم، وتزخر بالإبداع والأفكار المبتكرة، وهي محرك التوسع الاقتصادي. غير أن تكلفة السكن في العديد من المدن باهظة على نحوٍ مُعجِز، حتى بالنسبة لأصحاب المهن مرتفعة الأجر نسبيا، ناهيك عن العمالة الأساسية منخفضة الأجر التي تحافظ على أمان المدن ونظافتها وسلاسة العمليات اللازمة لتسيير شؤونها. والعديد من هؤلاء العاملين – مثل رجال الشرطة والمعلمين والممرضين وسائقي خدمات توصيل الطلبات – يتعين عليهم الذهاب إلى العمل، ولا يمكنهم الاستفادة من التحول إلى نموذج العمل من بُعد للعثور على أماكن أقل تكلفة للعيش وتكوين أسرة.

وفي بلدان منظمة التعاون والتنمية في الميدان الاقتصادي، ومعظمها من البلدان الغنية، ارتفعت أسعار المساكن بحوالي 40% بالقيمة الحقيقية خلال العقد السابق، في حين ارتفعت تكلفة المنازل في الولايات المتحدة بنحو 50%. وكان الطلب على الإسكان قويا للغاية في السنوات الأخيرة، مدفوعا بزيادة السكان والدخل. وفي الوقت نفسه، لم يواكب عرض المساكن مستويات الطلب، وهو ما يُعزى جزئيا إلى القوانين المنظمة لاستخدام الأراضي (مثل منع الأحياء ذات المنازل المستقلة التي تسكنها أسرة واحدة من السماح ببناء المساكن متعددة الأسر) التي تضع شروطا لعدد الوحدات السكنية التي يمكن بناؤها على أرض ما. ويهدد ذلك بتفاقم عدم المساواة بين الأجيال، إلى جانب تداعيات أخرى: 60% من الأفراد في الفئة العمرية 18-29 أعربوا عن قلق طفيف أو بالغ حيال إمكانية الحصول على مسكن يلبي احتياجاتهم. والقدرة على تحمل تكلفة السكن من المخاوف المتنامية لدى الشركات أيضا، حيث تضطرها على حد قولها إلى رفع الأجور وكذلك رفع تكلفة العمالة في ميزانياتها.

والمشكلة لا تقتصر على العالم الغني فقط. فهناك ندرة في الإسكان الاقتصادي في أكثر البلدان فقرا على وجه الخصوص. ففي كولومبيا على سبيل المثال، يدفع 82% من المستأجرين في شريحة الدخل الخُميسية الدنيا ما يزيد على 40% من دخولهم للملاك، وفقا لمنظمة التعاون والتنمية في الميدان الاقتصادي.

وارتفاع أسعار المساكن والإيجارات يضطر الأفراد إلى تحمُّل ديون ضخمة. ومن شأن اقتراض الأسر أن يعزز النمو الاقتصادي في الأجل القصير، ولكنه يفرض تكلفة بالغة لاحقا، حيث يتراجع إنفاق المستهلكين لسداد أقساطهم، ويتباطأ الاقتصاد، وترتفع البطالة، كما أوضح صندوق النقد الدولي. وفي الصين على سبيل المثال، كان لهبوط قطاع الإسكان تداعيات هائلة على الاستهلاك. ويتفاقم الأمر مع وقوع صدمة اقتصادية مفاجئة – مثل انهيار أسعار المساكن- يمكن أن تؤدي إلى دوامة من حالات التعثر الائتماني التي تزعزع استقرار النظام المالي.

لو كانت هناك روابط بين الاقتصاد الكلي والاقتصاد العقاري، لربما استطعنا التوصل إلى توقعات أكثر دقة بشأن تطورات الأزمة المالية العالمية.

ولو كانت هناك روابط بين الاقتصاد الكلي والاقتصاد العقاري، لربما استطعنا التوصل إلى توقعات أكثر دقة بشأن تطورات الأزمة المالية العالمية خلال 2008-2009. ولربما استطعنا أيضا أن نفهم عن قرب معضلات السياسات في الآونة الأخيرة، كما توضح المقالات التي يعرضها غلاف هذا العدد.

وخلال العام الجاري، واجه خبراء الاقتصاد الكلي تحديين أساسيين. الأول، فهم مصادر ارتفاع التضخم خلال الفترة 2021-2022 ومدته المحتملة. والثاني، النظر في كيفية تحقيق "هبوط هادئ" من خلال إبطاء الاقتصاد لكبح التضخم دون التسبب في حالة من الركود. وكان بمقدور خبراء الاقتصاد الكلي التعامل بشكل أفضل مع هاتين القضيتين الأساسيتين على جانب السياسات لو كانوا على دراية أكبر بتطورات أسواق العقارات.

والارتفاع المزمن في معدلات التضخم في الولايات المتحدة كان انعكاسا لمزيج معقد ومتغير من عوامل العرض والطلب. غير أن دور الإسكان كان مفاجئا، واندفع كبار خبراء الاقتصاد الكلي من فورهم لفهم تأثير أسعار وإيجارات المساكن على مقاييس تكلفة المعيشة عن قرب. وقد ساهم ارتفاع تكلفة قروض الإسكان بالفعل في حالة التشاؤم المربكة التي تتضح في شعور المستهكلين حيال الأوضاع الاقتصادية، وأدى إلى مخاوف عديدة في دوائر الاقتصاديين الذين عزموا على تفسير حالة الانفصال عن مؤشر أسعار المستهلكين.

وقد واجهت البنوك المركزية تحديات في فهم تأثير زيادات أسعار الفائدة التي عكفت على تصميمها لكبح التضخم على قطاع الإسكان والاقتصاد ككل. والمهمة ليست سهلة. فالقنوات التي تؤثر من خلالها أسعار الفائدة على أسواق الإسكان معقدة وتتغير مع الوقت – كما تتطلب دراسة أسواق الإسكان بناء على دراية عميقة يندر توافرها في كتب الاقتصاد الكلي، كما أشار ليمر منذ عشرين عاما تقريبا حينما أبدى أسفه على إخفاقه في العثور على كتاب واحد يولي قطاع العقارات "الأهمية التي يستحقها".

ومن القنوات التي نرى لها دورا في تأثير أسعار الفائدة على قطاع الإسكان هي انتشار القروض العقارية ذات الفائدة الثابتة، حيث تصل نسبتها إلى صفر تقريبا في جنوب إفريقيا وتتجاوز 95% في المكسيك والولايات المتحدة. ومن العوامل الأخرى المؤثرة على فعالية السياسة النقدية حجم ديون أصحاب المساكن، وقيود العرض، ومدى ارتفاع أسعار المساكن والمغالاة المحتملة في التقييم، وجميعها من المؤشرات التي ينطوي قياسها على صعوبة بالغة.

وعلاوة على هذه الأمور التي تجعل الصورة معقدة بالفعل، فإن قوة هذه القنوات تتغير مع الوقت. فعلى سبيل المثال، ارتفع مؤخرا نصيب القروض العقارية ذات الفائدة الثابتة في العديد من البلدان. وتتفاوت كذلك إمكانية إعادة التمويل عبر الاقتصادات ومع الوقت. ومن ثم فإن معايرة السياسة النقدية تتطلب فهما عميقا لخصوصية قطاع الإسكان وأسواق الإسكان في كل بلد على حدة.

ويعد الغذاء والملبس والمسكن من الاحتياجات البشرية الأساسية. وبالفعل، فقد أقر الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر عام 1948 وغيره من المعاهدات الدولية المماثلة الحق في الحصول على سكن ملائم. ويعد القضاء على الجوع من أهم ركائز أهداف التنمية المستدامة التي وضعتها الأمم المتحدة (هدف التنمية المستدامة الثاني هو القضاء التام على الجوع). وحينما ترتفع أسعار الغذاء، تسارع وكالات الأمم المتحدة مثل برنامج الأغذية العالمي بالتحرك، كما يطلق صندوق النقد الدولي بدوره برامج إقراضية جديدة لمساعدة الشعوب والبلدان على مواجهة آثار صدمات أسعار الغذاء. أما المأوى فهو الجانب المهمش، فالإسكان يذكر بالكاد ضمن أهداف التنمية المستدامة. وذلك رغم أن القدرة على تحمل تكلفة السكن من المشكلات الشائعة التي تؤثر على العديد من اقتصادات العالم الكبرى، إن لم يكن على معظمها. ولا عجب إذن أن الإسكان برز بوصفه من القضايا الرئيسية في عدد من السباقات الانتخابية القومية والمحلية.

براكاش لونغاني لونغاني هو مدير برنامج الماجستير في الاقتصاد التطبيقي بجامعة جونز هوبكنز.

الآراء الواردة في هذه المقالات وغيرها من المواد المنشورة تعبر عن وجهة نظر مؤلفيها، ولا تعكس بالضرورة سياسة صندوق النقد الدولي.