5 min (1403 words) Read

بعض البلدان بدأت تنقلب على المشترين الأجانب بعد أن تحول الارتفاع المفرط في أسعار العقارات إلى مسألة سياسية

 

9 شارع كنزينغتون هو عنوان المنزل ذي الطابع الفيكتوري المشيد في عام 1890 والذي يضم أربع غرف نوم وكثير من السمات الجاذبة للمشترين الأجانب الذين يتعامل معهم بانتظام روس سافاس، المدير الإداري لشركة كاي آند بيرتون العقارية. والعقار الذي يقع في واحد من أبرز شوارع مدينة ملبورن الأسترالية التي تصطف على جانبيها الأشجار يزدهي بواجهته الفخمة ودفيئته النباتية وحديقته الفاخرة وقربه من المدارس الراقية، وكلها عوامل ساهمت في وصول سعره إلى 8 ملايين دولار أسترالي (504 ملايين دولار أمريكي).

ولطالما كان المشترون الدوليون هم الدعامة الأساسية لشركة كاي آند بيرتون، وهي شركة تبيع المنازل الراقية في مدينة ملبورن منذ عام 1938. وأكثر ما يجذب المشترين، طبقا لسافاس، هو المنازل المطلة على مسطحات مائية، والعقارات الخاصة، والعقارات حديثة الإنشاء، والمنازل الجاهزة للسكن.

وقال سافاس إن "مدن الساحل الشرقي الأسترالي على وجه الخصوص هي وجهة منشودة للراغبين في مستوى معيشي مرتفع يتيح ارتياد مطاعم عالمية المستوى وفرصا للتسوق والوصول إلى المرافق الطبية والمنشآت التعليمية". وأضاف أن "أستراليا تعتبر من عدة أوجه هي "أرض الميعاد" بالنسبة لهؤلاء المشترين الدوليين".

غير أن المنزل الكائن في 9 شارع كنزينغتون يحمل عوامل جذب للأستراليين أيضا، حتى وإن كان سعره بعيدا عن متناول المشتري العادي. وإدراكا من الحكومة الأسترالية للتصور الشائع بأن المشترين الأجانب الأثرياء يزيحون السكان المحليين من السوق، قامت هذا العام بزيادة الرسوم المفروضة على الأجانب ثلاثة أضعاف* في حالة شرائهم منزلا قائما ورفعت الضرائب بمقدار الضِعف على من يتركون مساكنهم شاغرة.

ولا يقتصر هذا على أستراليا. فهناك تحول جارٍ في موقف كثير من البلدان تجاه امتلاك الأجانب للعقارات السكنية في ظل شعور بالقلق من أن يكون ارتفاع أسعار المساكن في سبيله إلى إخراج المشترين المحليين من سوق الإسكان. فقد أقرت نيوزيلندا قانونا* يمنع الأجانب من شراء بعض العقارات السكنية في عام 2018. وفي كندا، تم تمديد حظر مدته عامان على تَمَّلُك الأجانب للعقارات بحيث أصبح ينتهي في 2027* بعد أن كان من المقرر انتهاؤه في الأول من يناير 2025.

وبحسب ما أوردته شركة نايت فرانك للاستشارات العقارية العالمية في "تقرير الثروة" (Wealth Report) لعام 2024*، فإن إجراء انتخابات في 70 بلدا في عام 2024 وضع الأثرياء الباحثين عن عقارات في الخارج أمام مشهد عالمي يتألف من مكونات متعددة ومتغيرة، بما في ذلك القيود على المشترين الأجانب والعقارات التي يأجرونها لقضاء العطلات، وعلى القواعد المنظِّمة للتخطيط العمراني، والضرائب العقارية.

وكتبت كيت إيفريت ألين، رئيسة قسم الأبحاث الدولية والقُطرية، في هذا التقرير أنه "مع تصاعد الدين العام وانخفاض القدرة على تحمل تكلفة السكن في مختلف الاقتصادات المتقدمة، يميل صناع السياسات إلى زيادة التدقيق في الثروات والممتلكات، وهو ما يضيف بُعدا آخر للاعتبارات الاستراتيجية المتعلقة بأصحاب الثروات الصافية الفائقة".

الوعد الذهبي

استفادت بلدان العالم لفترة طويلة من رغبة الأثرياء في شراء عقارات بعيدا عن بلدانهم الأصلية - بغية تأمين مستوى أفضل من التعليم ونمط الحياة لأسرهم، وحماية ثرواتهم من النظم المحلية التي تفرض عليهم ضرائب مرتفعة، وأحيانا لإخفاء أموال حصلوا عليها بطرق غير مشروعة عن السلطات.

وبعد أن كان ما يُسمى ببرامج التأشيرة الذهبية *– أي الإقامة أو المواطنة مقابل الاستثمار بمستوى معين، غالبا في العقارات - حكرا على البلدان الجزرية الصغيرة، مثل سانت كيتس ونيفيس، بات من المعتاد عرضه للراغبين في عدد متزايد من البلدان بفضل ما يجلبه المشترون الدوليون معهم من تدفقات دولارية.

فقد أطلقت اليونان، على سبيل المثال، برنامج التأشيرة الذهبية عام 2013 في الوقت الذي كانت تكافح فيه للخروج من أزمة الديون التي هددت عضويتها في منطقة اليورو. ولدى البرتغال ترتيب مماثل ينطبق على "المقيمين غير الدائمين" الذين تطبق عليها معدلات ضريبية أقل.

ولكن البرامج في بلدان الاتحاد الأوروبي مثل اليونان والبرتغال أثارت قلق السلطات* أيضا من احتمال أن يكون ذلك سبيلا لحصول المجرمين على حقوق المواطنة والإقامة ولتسهيل غسل الأموال، وهو قلق تردد صداه في بلدان أخرى حول العالم قدمت للأثرياء حوافز للاستثمار في العقارات.

وفي شهر إبريل من هذا العام، أعلنت إسبانيا أنها ستنهي برنامجها؛ وقامت المفوضية الأوروبية، التي تعتبر برامج الجنسية عن طريق الاستثمار غير قانونية بموجب قانون الاتحاد الأوروبي، بمقاضاة مالطا في محكمة العدل* وطعنت في برنامجها.

ولكن في الوقت الذي تتراجع فيه بعض البلدان عن الحوافز التي كانت تجتذب المشترين الأجانب – ومن بينها سنغافورة التي ضاعفت ضريبة الدمغة* على الأجانب إلى 60% لتخفيف ضغوط الإسكان هناك – فلا تزال بعض البلدان الأخرى تحاول اجتذاب مثل هذا النوع من الأعمال. فنجد أن دبي تتيح لمستثمري العقارات، ورجال الأعمال، ومن يملكون مهارات متخصصة كالأطباء أو مهندسي البرمجيات، الإقامة في الإمارات العربية المتحدة التي لا تفرض ضرائب.

بنك أمي وأبي

وأبعد قليلا في شارع كنزينغتون، وتحديداً في المبنى السكني رقم 10، دخلت مؤخرا مجموعة مختلفة من مشتري المنازل المحتملين في منافسة سعرية حامية. فقد حاول أحد مسؤولي المزادات العقارية إضافة بضعة آلاف دولار لسعر بيع شقة مكونة من غرفتي نوم.

وقال بنبرة منغمة "ها هو البيت"، ضاربا بكفه مجموعة كتيبات ملفوفة. ثم أشار إلى آخر من قدم عرضا للشراء، وانبرى في سرد قائمة المقاهي ووسائل النقل العام والمزايا الأخرى التي تتمتع بها ضاحية جنوب يارا الثرية في عُمق ملبورن. وعند إغلاق المزايدة، صفق الحاضرون بأدب، واشترى رجل في منتصف العمر الشقة لابنته - مقابل 855 ألف دولار أسترالي، أي أعلى من السعر الأقصى المطلوب بنحو 70 ألف دولار أسترالي.

وبالطبع، لا يمكن إلقاء اللائمة عن كل مشكلات الإسكان على الأثرياء الأجانب الساعين للحصول على مساكن. فهناك جيل من الأستراليين ركب موجة ارتفاع أسعار المساكن منذ ثمانينات القرن الماضي، فانتقل بسرعة فائقة إلى مصاف أغنى أغنياء العالم بفضل أصولهم العقارية.

وبحسب تقرير جونز لانغ لاسال للربع الثاني من 2024* بشأن الشقق السكنية، تشهد الضواحي المتميزة القريبة من منطقة الأعمال المركزية في سيدني طلبا قويا على المشروعات السكنية الفاخرة من الراغبين في شغل مساكن أصغر من مساكنهم الحالية للاستفادة من أصولهم العقارية الكبيرة، ومن ثم لا يمانعون في دفع أسعار أعلى. 

وهناك من يساعدون أبناءهم. ذلك أن "بنك أمي وأبي" هو المكان الذي يلجأ إليه بعض الشباب الأسترالي حديث السن عندما يعجز عن تدبير الدفعة المقدمة لشراء منزل. وبالتالي، يسعون إلى الاستفادة من قدرة والديهم على الاقتراض لشراء عقار – في مبنى كالذي يقع في 10 شارع كنزينغتون - أو للمساعدة في سداد الدفعة الأولى للتأهل للحصول على قرض عقاري، وهو مبلغ قد يستغرق الآن أكثر من عقد من الزمن لجمعه، وفقا لبحث أعدته مجموعة أستراليا ونيوزيلندا المصرفية ANZ Bank).)

وتكشف بيانات المجموعة المصرفية أن دخول سوق الإسكان يزداد صعوبة أمام مشتري المنازل للمرة الأولى في كافة أنحاء أستراليا. فقد بلغت نسبة الدخل اللازمة لخدمة دين عقاري جديد مدته 25 عاما مستوى قياسيا هو 50,3%؛ ويستغرق الأمر 10,6 سنة في المتوسط لادخار قيمة الدفعة المقدمة لشراء منزل.

وتُمَثل ملكية المنزل أمرا أساسيا لبناء الثروة بالنسبة للأستراليين. وتعتمد الافتراضات المتعلقة بحجم المبلغ المطلوب للتقاعد على فكرة امتلاك منزل.

لكن الخطاب العام أصبح مشحونا على نحو متزايد؛ فارتفاع تكلفة الإسكان تعني أن الأستراليين الأصغر سنا، أو الأكثر ضعفا، يجدون أنفسهم في كفاح مستمر ليس لشراء منزل وحسب بل لمجرد استئجاره.

وفي هذا الصدد قال آلان كولر، مؤلف كتاب الانقسام الكبير: فوضى الإسكان في أستراليا وكيفية إصلاحها (The Great Divide: Australia’s Housing Mess and How to Fix It): "لا يمثل امتلاك الأجانب للمساكن عاملا كبيرا في هذه الفوضى؛ فالأجانب لا يمتلكون عددا كبيرا من المنازل الشاغرة. ولربما كان الخيط المشترك هو معدلات الهجرة [المرتفعة] مقابل معدلات البناء المنخفضة".

وقد بلغ عدد سكان أستراليا 27,1 مليون نسمة في 31 مارس 2024، وفقا لأحدث الإحصاءات الصادرة عن مركز تعداد السكان*. وعلى الرغم من تباطؤ النمو السكاني السنوي مقارنة بذروته البالغة 2,6% في الفترة من يوليو إلى سبتمبر 2023، فإن صافي الهجرة إلى الخارج – أي صافي الزيادة أو النقصان في عدد السكان نتيجة الهجرة من البلاد وإليها – بلغ 510 آلاف شخص في السنة المنتهية في 31 مارس 2024، و134 ألف شخص خلال الفترة من يناير إلى مارس فقط، مما ساهم في قوة نمو الطلب على المنازل.

وتشير تقديرات مجموعة أستراليا ونيوزيلندا المصرفية إلى أن أكثر من 80% من الوافدين الجدد إلى أستراليا هم من المستأجرين. وقد اعتُبِر قرار الحكومة في أغسطس وضع حد أقصى لعدد الطلاب الأجانب في البلاد* أنه محاولة لتخفيف الضغط على سوق المساكن المستأجرة.

وقال صندوق النقد الدولي في بيانه الأخير* عن أستراليا إن هناك حاجة لمنهج شامل يعالج النقص الكبير في عرض المساكن، بما في ذلك زيادة عدد عمال البناء، وتخفيف قيود التقسيم والتخطيط العمراني، وإعادة تقييم الضرائب العقارية (بما في ذلك الامتيازات الضريبية الممنوحة للمستثمرين).

وفي الوقت نفسه، تتوقع جيمي مِي، رئيسة المبيعات الدولية في شركة كاي آند بيرتون، أن تؤدي تأثيرات العملة، والقيمة طويلة الأجل للعقارات الأسترالية، إلى الحفاظ على قوة الطلب في سوق العقارات الفاخرة، على الرغم من تحول المواقف.

وقالت مِي: "لم ألحظ تراجعا كبيرا في الثقة بين المشترين الأجانب. فالمشترون الراغبون في شراء مساكن فاخرة أقل اهتماما بالرسوم أو الضرائب الإضافية، ولا يزال تركيزهم منصبا على اقتناء الأصول عالية القيمة".

ولا تزال أستراليا هي الخيار الأول لأثرياء المشترين من الصين الذين يبحثون عن عقارات في الخارج، طبقا لنايت فرانك.

ولكن في نهاية المطاف، لا تنفرد أستراليا بالمعاناة من فوضى الإسكان. فكما قال كولر: "إنها أزمة عالمية في القدرة على تحمل تكلفة السكن، وإن كان لكل بلد طريقته الخاصة - وأسبابه الخاصة – في الشعور بالتعاسة إزاءها، على حد تعبير ليو تولستوي في وصفه لتعاسة العائلات".

* باللغة الإنجليزية

ماريا بتراكيس ماريا بتراكيس هي صحفية مستقلة في ملبورن.

الآراء الواردة في هذه المقالات وغيرها من المواد المنشورة تعبر عن وجهة نظر مؤلفيها، ولا تعكس بالضرورة سياسة صندوق النقد الدولي.