5 min (1403 words) Read

لا يزال البشر يهيمنون على الكوكب عن طريق سرد القصص، ويقول يوفال نوح هراري إنه عما قريب، قد يفلت القلم من بين أيدينا

 

على خلاف قصة الإنسان الاقتصادي الخيالية، وهي نموذج العقلانية المفرطة المُستخدَم لشرح اختياراتنا المالية، دائما ما تكون قرارات الإنسان العاقل شديدة التأثر بالبيئات الاجتماعية والدوافع العاطفية التي تحركها القصص.

وكباحث عن الحقيقة منذ سن مبكرة، كتب يوفال نوح هراري عن تطور الجنس البشري بوصفه فليسوفا ومؤرخا. وأصبح كتابه Sapiens: A Brief History of Humankind (العاقل: تاريخ مختصر للنوع البشري)، المنشور في عام 2014، ظاهرة عالمية، وهو مُتاح بأربعين لغة تقريبا في جميع أنحاء العالم. ويناقش كتابه الأخير Nexus: A Brief  History of Information Networks from the Stone Age to AI (الوِثَاق: تاريخ موجز لشبكات المعلومات من العصر الحجري حتى الذكاء الاصطناعي)، تطور شبكات التواصل البشري وكيف يمكن للذكاء الاصطناعي في نهاية المطاف أن يهزمنا في لعبتنا التي نتفرد بها.

ويعمل هراري حاليا محاضرا في التاريخ في الجامعة العبرية في القدس، وزميلا باحثا متميزا في مركز دراسة المخاطر الوجودية في جامعة كامبريدج. وقد تحدث مع بروس إدواردس من فريق مجلة التمويل والتنمية عن سرد القصص، والثقة، والذكاء الاصطناعي.

التمويل والتنمية: يتمثل أحد المبادئ الأساسية التي بنيت عليها تصورك لتاريخ الإنسان العاقل في قدرتنا المتفردة على تخيل المستقبل. فكيف لا يزال سردنا القصص يتيح لنا التفوق على الكائنات الأخرى دائمة التطور من حولنا؟

هراري: إن قوتنا تكمن في التعاون. فالشمبانزي، على سبيل المثال، لا يمكنه التعاون إلا ضمن أعداد قليلة للغاية، ولكن الإنسان العاقل بمقدوره التعاون ضمن أعداد غير محدودة. وهناك اليوم 8 مليارات شخص في العالم، يشكلون جميعا تقريبا جزءا من شبكات التجارة العالمية نفسها - على الرغم من كثرة الاختلافات والصراعات بينهم. فالطعام الذي نتناوله، والملابس التي نرتديها، والطاقة التي نستهلكها غالبا ما تأتي من الجانب الآخر من العالم، من أشخاص لم يسبق لنا الالتقاء بأي منهم. وتشكل هذه الشبكات التعاونية الكبيرة قوتنا العظمى، وتُبنى على أساس الثقة. والسؤال هو، كيف تبني الثقة بين أشخاص غرباء؟ والإجابة هي: "القصص".

فنحن نبني الثقة عن طريق اختلاق قصص يصدقها الكثيرون. واستيعاب هذه القصص أسهل ما يكون في حالة الديانات، حيث يمكن لملايين البشر التعاون في أنشطة خيرية، مثل بناء المستشفيات، أو شن حروب مقدسة، لأن ملايين الغرباء يصدقون نفس الأسطورة. ولكن الأمر نفسه ينطبق أيضا على الاقتصاد والنظام المالي. فأنجح القصص التي رويت حتى يومنا هذا هي قصة المال. فهي في الأساس القصة الوحيدة التي يصدقها الجميع.

التمويل والتنمية: ورغم ذلك، وصفت المال بأنه لا يعدو أن يكون أداة ثقافية من صنع الإنسان.

هراري: نعم. المال قصة، وخيال - وليست له قيمة موضوعية. فالعملات، مثل أوراق البنكنوت والعملات المعدنية، لا تؤكل ولا تُشرب. إلا أنه يمكنك التوجه إلى أحد الغرباء وإعطاؤه قطعة من الورق لا قيمة لها مقابل بعض الخبز الذي يمكنك أكله. ويعتمد هذا كله على تصديق الجميع للقصص نفسها عن المال، وحينما يتوقف الناس عن تصديق القصة، ينهار كل شيء. ولقد رأينا أمثلة على ذلك على مدار التاريخ، ونشهده أيضا اليوم مع ظهور أنواع جديدة من العملات. فما هي البيتكوين، والإيثيريوم، وجميع هذه العملات المشفرة؟ إنها قصص. وقيمتها تعتمد على القصص التي يرويها الناس ويصدقونها عنها. ويمكنك أن ترى ثقة الناس في القصة تعلو وتهبط في صعود قيمة البيتكوين وانهيارها.

التمويل والتنمية: في أحدث كتبك، الوِثَاق، تقول إننا في طور التحول عن اقتصاد المال إلى اقتصاد يعتمد على تبادل المعلومات لا العملات. فكيف يبدو اقتصاد المعلومات؟

هراري: سأبدأ بمثال عن شركة غوغل، وهي من أهم الشركات في حياتي. فأنا استخدمها كل يوم، وعلى مدار اليوم. ولكنك لن تعرف ذلك مطلقا من حسابي المصرفي، لأنه لا يوجد تبادل أموال. فأنا لا أدفع لغوغل أي أموال بأي صورة، وغوغل لا تعطيني أي أموال. ما أحصل عليه من غوغل هو معلومات.

التمويل والتنمية: وغوغل أيضا تحصل منك على معلومات.

هراري: بالضبط. فشركة غوغل تحصل مني على كم كبير من المعلومات عما يعجبني وما لا يعجبني، وعن آرائي - أيا ما كانت - ثم تستخدم هذه المعلومات. وثمة أعداد متزايدة من المعاملات في العالم تتبِّع هذه الصيغة، أي تبادل معلومات مقابل معلومات وليس أشياء مقابل أموال. وهناك السلطة والثروة أيضا. فالثروة يتحول معناها من امتلاك الكثير من الدولارات إلى امتلاك الكثير من البيتابايت من المعلومات. ماذا يحدث لو كان أقوى الأشخاص والشركات أثرياء، بمعني أن لديهم مخزونات هائلة من المعلومات التي لا يعبأون حتى بتحويلها إلى أموال، أي مبادلتها مقابل المال، لأن بإمكانهم الحصول على أي شيء يرغبونه مقابل المعلومات؟ لماذا نحتاج إلى المال؟ إذا كان بمقدورك شراء الخدمات والسلع بالمعلومات، فلست بحاجة إلى المال.

التمويل والتنمية: إذن، كتاب الوِثَاق يستند إلى فكرة أن هياكل قوتنا ومنظومات معتقداتنا قد نشأت على مدار مراحل التطور البشري من القصص، ويضعها في سياق تكنولوجيا اليوم. فما الذي يخبرنا به الكتاب عن مخاطر شبكات المعلومات تلك التي تزداد تعقيدا يوما بعد الآخر؟

هراري: الرسالة الأولى فلسفية غالبا، وهي أن المعلومات ليست الحقيقة. فمعظم المعلومات نسج خيال وتصورات وأوهام. أما الحقيقة، فهي باهظة التكلفة؛ حيث يتعين إجراء الأبحاث، وجمع الأدلة، واستثمار الوقت والجهد والمال في التوصل إلى الحقيقة. وغالبا ما تكون الحقيقة مؤلمة، ولذلك فهي مجموعة فرعية صغيرة للغاية من المعلومات.

والرسالة الأخرى هي أننا بصدد أن نقدم للعالم أقوى تكنولوجيا ابتكرها الإنسان على الإطلاق، ألا وهي: الذكاء الاصطناعي. والذكاء الاصطناعي مختلف اختلافا جوهريا عن الصحافة المطبوعة، والقنابل الذرية - بل يختلف عن كل شيء اخترعناه حتى يومنا هذا. فهو أول تكنولوجيا في التاريخ يمكنها صنع القرارات وابتكار أفكار جديدة من تلقاء نفسها. فالقنبلة الذرية لا يمكنها أن تقرر من تصيب؛ أما الذكاء الاصطناعي فيمكنه ذلك. والذكاء الاصطناعي يمكنه صنع قرارات مالية واختراع أدوات مالية جديدة من تلقاء نفسه، والذكاء الاصطناعي الذي نعرفه اليوم، في عام 2024، ما هو إلا خطوة بدائية للغاية في ثورة الذكاء الاصطناعي. فنحن لم نر شيئا منها بعد.

وهناك أمر مهم، وهو وثيق الصلة بصندوق النقد الدولي على وجه الخصوص، وهو أن عددا قليلا جدا من البلدان يقود ثورة الذكاء الاصطناعي. فمعظم البلدان تأخرت كثيرا عن الركب، وما لم نتوخ الحذر، فسنشهد تكرارا لما حدث إبان الثورة الصناعية، ولكن على نطاق أوسع. ففي القرن التاسع عشر، بدأت الثورة الصناعية في عدد قليل من البلدان فقط - بريطانيا، ثم الولايات المتحدة، واليابان، وروسيا. ومعظم البلدان لم تع ما يحدث. فماذا يكون هذا الشيء ذو المحركات البخارية، وما هي أجهزة التلغراف؟ إلا أنه في غضون بضعة عقود، كان العالم بأسره إما قد تعرض لغزو مباشر، أو هيمنت عليه تلك القوى الصناعية القليلة بشكل غير مباشر. والعديد من البلدان قد بدأت للتو التعافي من الضرر الذي لحق بها بسبب هذا الغزو الصناعي.

والآن، هناك هذه الموجة العاتية من الذكاء الاصطناعي. فلنتذكر ما لحق بالمساواة في العالم بفعل المحرك البخاري والتلغراف، ثم نضربه في عشرة أضعاف، أو مائة أو ألف ضعف. سنبدأ حينها في فهم تداعيات احتكار بضعة بلدان فقط لقوة الذكاء الاصطناعي الهائلة، وتأخر جميع البلدان الأخرى عن الركب لتتعرض للاستغلال والهيمنة بصور لم نشهد لها سابقة في التاريخ.

التمويل والتنمية: إذن، من الخطر استمرار الذكاء الاصطناعي دون ضوابط، كما تقول في كتابك "الوِثَاق". ولكن البشر، كما توضح أيضا في كتابك "العاقل"، دأبوا على الطغيان على الكوكب دونما خشية من عقاب، "كآلهة لا تعرف ما تريد". فهل من شيء يمكن لعلم الاقتصاد تقديمه للحد من أثر تضافر هاتين القوتين بما قد ينشأ عنهما من دمار هائل؟

هراري: علم الاقتصاد يقوم على صياغة الأولويات. فهناك موارد محدودة وعدد كبير للغاية من الرغبات والاحتياجات المختلفة، هناك إذن مسألة الحقيقة، ومسألة الرغبة. فما هي الحقائق، وماذا نريد؟

بشأن مسألة الرغبة، فإن أفضل ما توصَّلنا إليه هو نظام الديمقراطية الذي يطلب من الفرد التعبير عن رغباته. ورغبات شخص حاصل على درجة الدكتوراه في علم الاقتصاد، أو على جائزة نوبل ليست أهم من رغبات شخص لم يستكمل تعليمه الثانوي. فالهدف من النظام الديمقراطي هو إعطاء وزن متساوٍ لرغبات كل شخص. ثم هناك مسألة الحقيقة: ما هي الحقائق؟ والديمقراطية ليست النظام المثالي لتحديد هذا الأمر. فإذا أردت، على سبيل المثال، معرفة ما إذا كانت درجة حرارة المناخ على كوكب الأرض تتزايد حقا، وما إذا كان ذلك نتيجة أفعال البشر أو بسبب الدورة الطبيعية للشمس، أو أيا ما كان السبب، فإن هذه المسألة لا تحتاج إلى انتخابات ديمقراطية. فالمسألة هنا مسألة حقيقة، لا مسألة رغبة.

ومما تعلمناه عن البشر على مدى آلاف السنين أنهم غالبا ما يرغبون في أن تكون الحقيقة مختلفة عما هي عليه - لأسباب شخصية، أو لأسباب دينية، أو لأسباب أيديولوجية. وإذا كنت ترغب في معرفة الحقائق، فعليك بناء مؤسسات من خبراء على علم بكيفية تحليل الأدلة، بيد أنه ينبغي لهم ألَّا يُملوا علينا رغباتنا أو أفعالنا. فالخبراء يقولون، نعم، تغير المناخ حقيقة، وهذه هي الأسباب – ثم تنتقل الكرة إلى ملعب الديمقراطية.

التمويل والتنمية: ولكن القرارات الديمقراطية التي يتخذها البشر تستند إلى ما يتنامى إلى أسماعهم من قصص. ماذا يحدث إذن لو أن تلك القصص لم تعد من سرد البشر؟

هراري: نحن الآن في مواجهة زلزال. فالمجتمعات البشرية تقوم على الثقة، والثقة تستند إلى المعلومات، وإلى الاتصالات، وأي تغير كبير في تكنولوجيا الاتصالات يزعزع الثقة بين البشر. وتكون النتيجة زلزالا اجتماعيا وسياسيا. ومع صعود الذكاء الاصطناعي، نرى للمرة الأولى أن القصص التي تحافظ على استمرار المجتمعات البشرية تنشأ عن ذكاء غير بشري.

وهذه القصص قد تكون قصصا دينية أو مالية؛ فقد ظهرت جميع الأدوات المالية السابقة في التاريخ من وحي خيال البشر. ولكننا سنشهد الآن للمرة الأولى أدوات مالية من اختراع الذكاء الاصطناعي. ويكمن الخطر في أن الذكاء الاصطناعي يمكنه اختراع أدوات مالية لا يمكن لبشر فهمها، ناهيك عن تنظيم عملها.

وبمقدور الذكاء الاصطناعي فعل أشياء عظيمة الفائدة لنا، ولكنه يمثل خطرا وجوديا إذا خرج عن نطاق السيطرة. وأنا أنظر إلى الاختصار “AI” ليس بوصفه اختصارا لمصطلح الذكاء الاصطناعي (Artificial Intelligence)، وإنما "الذكاء المُغاير" (Alien Intelligence). وكلمة "alien" هنا لا تشير إلى ذكاء قادم من الفضاء الخارجي، بل قادم من مختبراتنا العلمية. وهو مُغاير بمعنى أنه يتخذ قرارات ويبتكر أفكارا بطريقة تختلف اختلافا جذريا عن طرق البشر. فهو ذكاء من النوع المُغاير. ومن الخطر البالغ إطلاق مليارات من العناصر المغايرة في العالم دون امتلاك وسيلة للسيطرة عليها والتأكد من أنها تستخدم قوتها الهائلة لصالح البشر.

أُجريت تعديلات تحريرية على نص هذه المقابلة لمراعاة الطول المناسب والوضوح. ويمكن زيارة الموقع الإلكتروني للاستماع إلى المقابلة كاملة.

بروس إدواردز محرر في مجلة التمويل والتنمية

الآراء الواردة في هذه المقالات وغيرها من المواد المنشورة تعبر عن وجهة نظر مؤلفيها، ولا تعكس بالضرورة سياسة صندوق النقد الدولي.