5 min (1403 words) Read

مساهمات مهمة لأحد مؤسسي صندوق النقد الدولي الرئيسيين غالبا ما يتم إغفالها

Boughton
هاري ديكستر وايت

كتب هاري ديكستر وايت قائلا: "لا يسعنا أن نتوقع من صبي القيام بعمل رجل"، في إشارة إلى صندوق النقد الدولي بعد عامين فقط من بدء عمله، داعيا كلا من الصندوق والبنك الدولي لاكتساب القدرات التي تتناسب مع مسؤولياتهما. وأضاف وايت: "بينما تعاظم حجم العمل، نرى الرجل الموكل به وقد تلاشى، مجازا، إلى مجرد صبي صغير."

فهل انحرف منتَج بريتون وودز - الذي كان وايت عنصرا أساسيا في إنشائه - حقا عن مساره بهذه السرعة؟ وإذا لم يرتق صندوق النقد الدولي إلى مستوى العمل منذ البداية، فكيف يتسنى لنا التأكد من أنه سيكون المؤسسة الصحيحة لتولي الإشراف على النظام المالي الدولي في القرن الحادي والعشرين؟

والسؤال الأول، بطبيعة الحال، هو مَن هاري ديكستر وايت؟ لقد ظلت الإجابة لغزا محيرا لفترة طويلة. وقد وصفه روي هارود، أول من كتب سيرة جون مينارد كينز، باختصار قائلا: "في بريطانيا، غالبا ما يُعتقد أن [وايت] كاتب متشائم ذو أسلوب جاف، حيث كتب . . . نسخة متواضعة من خطة كينز - لإثارة سخط البريطانيين في الأساس! غير أن الرجل كان أبعد ما يكون عن ذلك في الواقع. لقد كان وايت شخصية رائعة، ينبغي أن تحظى بمكانة كبيرة في سجلات التاريخ البريطاني." وحتى في موطنه، الولايات المتحدة، عادة ما صُوِّر بوصفه شريكا صغيرا لكينز، وربما ليس لديه ولاء لبلده، وكلا الأمرين يجانبه الصواب.

ولد وايت في بوسطن، ماساتشوستس، في عام 1892، وهو الابن السابع والأخير لزوجين مهاجرين من ليتوانيا. وقد انقطع عن الدراسة مرات عدة، لأنه أصبح يتيما واضطُر إلى العمل في سن مبكرة. ثم تم تجنيده كضابط في الجيش الأمريكي، وخدم في فرنسا إبَّان الحرب العالمية الأولى. وبفضل مثابرته، نال وايت درجة الدكتوراة في علم الاقتصاد من جامعة هارفارد وهو في الأربعين من عمره. وبعد فترة وجيزة، في عام 1934، قبل وظيفة صغيرة في وزارة الخزانة الأمريكية، حيث ترقى سريعا في المناصب. وعندما دخلت الولايات المتحدة الحرب العالمية الثانية في عام 1941، كان يشغل منصب كبير الاقتصاديين في الوزارة.

وقد طلب منه وزير الخزانة آنذاك، هنري مورغنتاو الابن، وضع خطة لتنظيم العلاقات الاقتصادية والمالية مع باقي أنحاء العالم بعد انتهاء الحرب. وتمخض ذلك الأمر عن عقد مؤتمر بريتون وودز في عام 1944، الذي اعتمد فيه 44 بلدا متحالفا ما كان في الأساس خطة وايت بوصفها مخططا أوليا لكل من صندوق النقد الدولي والبنك الدولي. وفي عام 1946، أصبح وايت أول مدير تنفيذي أمريكي لصندوق النقد الدولي، بيد أن حالته الصحية سرعان ما تدهورت، وتوفي بسبب أزمة قلبية في عام 1948.

السلام والرخاء

تمثلت رؤية وايت لدور صندوق النقد الدولي في أنه يمكنه تعزيز التعاون المالي الدولي بحيث يتسنى للبلدان ممارسة التجارة بحرية وتطوير اقتصاداتها. وربما كانت أشهر كلماته هي: "الرخاء، مثله مثل السلام، لا يتجزأ." وكانت رسالته إلى زملائه الأمريكيين هي أنه لا يمكن للاقتصاد الأمريكي أن يزدهر ما لم يتمكن الناس والشركات في بلدان أخرى من شراء منتجاته. ولضمان مساندة جميع الحلفاء لخطته، أصر وايت على أن تُتاح لهم فرصة للمساهمة في وضع تصميمها.

ولكن على النقيض، أراد كينز التعجيل بإبرام صفقة بين المملكة المتحدة والولايات المتحدة، وتقديمها للحلفاء الآخرين. فقد خشي من أن أي مؤتمر كبير قد يتحول إلى "تجمع صاخب وفوضوي." وقد نظم وايت سلسلة اجتماعات لمجموعات أصغر من البلدان قبل أن يجمع ما يربو على 700 وفد معا في نيو هامبشير.

وتجدر الإشارة إلى أن أعمال مؤتمر بريتون وودز استمرت ثلاثة أسابيع. ولم يكن المؤتمر تجمعا صاخبا وفوضويا، فقد كلل بالنجاح في إنشاء المؤسستين الماليتين الكبيرتين. ولكن سرعان ما أصيب وايت بخيبة أمل بشأن مدى جاهزية صندوق النقد الدولي لتنفيذ رؤيته. ما الخطأ؟

إن ما أثار قلق وايت هو أنه لم يَرِد في مخيلته لا هو ولا أي شخص آخر في بريتون وودز أن الاقتصاد العالمي يمكن أن يشهد نموا بسرعة فائقة بعد الحرب. فهم لم يعرفوا سوى الكساد، والتقلبات، والفوضى الاقتصادية، الاكتفاء الذاتي، والحروب. وكل ما كانوا يأملون في تحقيقه هو استعادة الاستقرار والعودة إلى مستوى النشاط في مرحلة ما قبل الكساد.

وخلال عامين، في ظل تعافي أنشطة التجارة الدولية من تداعيات الكساد والحرب ومع ما سببته بداية الحرب الباردة من ضغوط إضافية على الميزانيات الوطنية، كان الطلب المحتمل على موارد صندوق النقد الدولي كبيرا. ولم تكن قدرات الصندوق كافية لتلبية ذلك الطلب. وقد واجه وايت ذلك الأمر باقتراح أصل مالي دولي جديد أطلق عليه اسم "الدولارات التجارية". ولم يدخل ذلك الاقتراح حيز النفاذ آنذاك، بيد أنه كان نموذجا أوليا لحقوق السحب الخاصة بعد عقدين من الزمان. واليوم، يُعترف بحقوق السحب الخاصة بوصفها مكونا بالغ الأهمية في مجموعة أدوات صندوق النقد الدولي لمساعدة البلدان على إدارة مواردها المالية.

ولم يكن الاقتصاد العالمي الديناميكي العامل الوحيد الذي اضطر صندوق النقد الدولي للتطور بمعزل عن الرؤية التي عرضها وايت في بريتون وودز. ففي أربعينات القرن الماضي، كانت معاملات القطاع الخاص المالية، مثل القروض من البنوك الدولية والسندات المبيعة دوليا، منعدمة تقريبا. فقد سجلت هبوطا حادا إبَّان الكساد الكبير في الثلاثينيات، لتشهد لاحقا المزيد من الانهيار تحت وطأة الحرب العالمية الثانية. واعتبر الكثيرون أن إمكانية استعادتها لأهميتها مجددا بمثابة تهديد للاستقرار الاقتصادي بوصفها أموالا ساخنة.

ومن ثم، اتفق وايت وكينز على أنه ينبغي لصندوق النقد الدولي أن يثني البلدان عن الانفتاح لتدفقات رؤوس الأموال. ونص ميثاق الصندوق على أنه لا يمكن للبلدان الاقتراض منه إلا لتمويل عجز الميزان التجاري، وليس لمواجهة التدفقات الرأسمالية الخارجة الكبيرة. وهو يمنح أيضا الصندوق سلطة أن يطالب البلدان بفرض ضوابط على رأس المال عند الاقتضاء. إلا أن الاقتصاد العالمي شهد تغيرات تزامنت مع ما حققه من نمو. ولأن القروض المصرفية والسندات الدولية أصبحت تُستخدم على نطاق أوسع لتمويل التجارة بين البلدان، عكس صندوق النقد الدولي مساره في نهاية الأمر، وبدأ يحث معظم البلدان على فتح أسواقها المالية أمام المنافسة الدولية. واليوم، يتبنى الصندوق منهجا أكثر حذرا، معترفا بكل من منافع الانفتاح، ومخاطر التقلبات وفقدان السيطرة.

التجارة الدولية

جاءت رؤية وايت بشأن صندوق النقد الدولي مدفوعة بقوة بمثال المشاركة العالمية في التجارة الدولية. وكان ذلك الأمر مستحيلا في عام 1944، لأن العالم كان منقسما بين التحالف الكبير وقوات المحور في الحرب العالمية، وكان معظم البلدان منخفضة الدخل تحت الحكم الاستعماري. وتمثل جزء من رؤية وايت في تشجيع البلدان المعادية على الانضمام للصندوق في مرحلة لاحقة، بمجرد أن تصبح مستعدة لقبول شروط العضوية. وقد تحققت تلك الرؤية تدريجيا، مدفوعة بانضمام كل من ألمانيا واليابان في عام 1952. وأدى إنهاء الاستعمار مباشرة إلى زيادة كبيرة في العضوية، من 40 بلدا في عام 1946 إلى 190 بلدا في يومنا هذا.

على الرغم من هذا، كان جزء آخر من رؤية وايت هو الحفاظ على جوهر التحالف الكبير، الذي كان يقود المجهود الحربي - بما في ذلك الاتحاد السوفيتي. وفي نص لم ينشر كُتب في عام 1945، قال وايت "ما من حرب كبرى محتملة ما لم تكن [الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي] على طرفي نقيض. . . والمهمة الكبرى التي تواجه الدبلوماسية الأمريكية - وهي المهمة الوحيدة التي لها قيمة حقيقية في المشكلات الكبيرة التي تواجهنا - هي وضع وسائل يمكن بها ضمان الصداقة والتحالف العسكري بين الولايات المتحدة وروسيا."

وخلال ثلاث سنوات، تحطم ذلك الحلم مع بداية الحرب الباردة. ولم ينضم الاتحاد السوفيتي على الإطلاق لصندوق النقد الدولي، وحذا معظم بلدان الكتلة السوفيتية في وسط أوروبا وشرقها حذوه. ولم يتحقق ذلك الجزء من رؤية وايت في نهاية المطاف إلا بعد تفكك الاتحاد السوفيتي في عام 1991.

على الرغم من أن وايت أراد أن يكون لكل بلد عضو صوت في نظام الحوكمة في الصندوق، فقد تبنى أيضا تلك الرؤية العملية للغاية المتمثلة في أن الرقابة المالية ينبغي أن تكون في أيدي البلدان الدائنة الرئيسية التي يمكن أن توفر الموارد المالية للصندوق. وفي الفترة التي سبقت انعقاد مؤتمر بريتون وودز، أبدى ازدراءه للجهود التي بذلها كينز لمنح البلدان الدائنة - ولا سيما المملكة المتحدة - قوة تصويتية مسيطرة. وفي البداية، جاءت معظم أصول صندوق النقد الدولي القابلة للاستخدام من الولايات المتحدة، وكانت الخزانة الأمريكية القوة الأكبر إلى حد بعيد خلف سياسات الصندوق وأعماله.

وللتعويض عن هذا المستوى من السيطرة، أصر وايت على أنه ينبغي أن يحصل كثير من البلدان الأعضاء الصغيرة والفقيرة غالبا على 10% على الأقل من القوة التصويتية. وقد تراجعت هيمنة البلدان الكبرى على مدى عقود، بيد أن الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي لا يزالان يمسكان بزمام الأمور. وعلى الرغم من الارتفاع الكبير في عدد البلدان الأعضاء الصغيرة، تراجعت نسبتها في القوة التصويتية.

والمسألة الرئيسية التي غلبت على جميع هذه القضايا هي الغرض الرئيسي من صندوق النقد الدولي. وفي تلك المسألة، كان كينز ووايت على اتفاق تام أن صندوق النقد الدولي كان يتعين أن يصبح ما يمكن أن نسميه اليوم مؤسسة "كينزية". ومن ثم، تمثل الغرض منه في تعزيز الرخاء من خلال عملية سليمة وفعالة لصنع السياسات، وأيضا عن طريق مساعدة البلدان على تجنب اتخاذ إجراءات "مدمرة للرخاء الوطني أو الدولي."

سياسات سليمة

على مدى سنوات، تمثل الانتقاد الأكثر استمرارا لصندوق النقد الدولي في أنه يُنظر إليه على أنه يعزز التقشف بدلا من تحقيق النمو الاقتصادي. ويتمثل دفاع الصندوق الأساسي ضد هذا الانتقاد في أنه لا يمكن المحافظة على استمرار الرخاء ما لم يرتكز على سياسات سليمة. وغالبا ما يجب على البلدان التي تشهد تعثرا اقتصاديا تحمل بعض المشقة على المدى القصير قبل أن تتمكن من تحقيق نجاح على المدى الأطول. وكان كل من كينز ووايت ليؤيدا وجهة النظر تلك، لكن السؤال يظل بشأن ما إذا كان التوازن صحيحا: ما مدى المشقة التي يجب تحملها لتحقيق أكبر قدر ممكن من المكاسب؟ ودون جلسة لاستحضار روحي عملاقي الفكر اللذين وافتهما المنية في سن صغير خلال الأيام الأولى من إنشاء صندوق النقد الدولي، لا يسعنا سوى أن نخمن إلى أي مدى كانا لينتقدا الصندوق.

وأخيرا، ماذا عن تهمة عدم الولاء؟ خلال الفترة التي عرفت باسم "الرعب الأحمر" في أعقاب الحرب العالمية الثانية، اتهم عضوان سابقان في الحزب الشيوعي الأمريكي وايت بأنه عميل سوفيتي وبنقل وثائق سرية إلى المخابرات السوفيتية. وعلى الرغم من أن الأدلة على هذين الاتهامين كانت دائما واهية، فقد اكتسبت مصداقية لأن الاتهامات ضد بعض أصدقاء وايت وزملائه كانت أقوى. وكان الحكم بأن شخصا ما مُذنب بالمشاركة أمرا شائعا آنذاك.

قيمة إرث وايت يجب في نهاية المطاف أن تزيد أو تنقص حسب قيمة أعظم إنجازاته، ألا وهو صندوق النقد الدولي.

وكان وايت أيضا مشتبها به لأن مهام عمله في وزارة الخزانة تطلبت منه تواصلا منتظما مع مسؤولين سوفيت في أثناء الحرب (عندما كانت الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي حليفان) ولا سيما في التخطيط لعقد مؤتمر بريتون وودز. ومع تراكم مزيد من الأدلة في الآونة الأخيرة، أصبح واضحا أن وايت كان هدفا لمتصيدي المعلومات السوفيت، وليس عميلا لخدمة مصالحهم.

وعلى مدى حياته كلها، لم يسع وايت يوما لأن يكون في دائرة الضوء. ولم يكسبه مؤتمر بريتوت وودز إلا بعض الشهرة التي طغت عليها إلى حد بعيد شهرة كينز. ثم جاءت الهجمات التي تعرض لها بعد وفاته لتشوه سمعته بشدة. وعلى الرغم من ذلك، فإن قيمة إرث وايت يجب في نهاية المطاف أن تزيد أو تنقص حسب قيمة أعظم إنجازاته، ألا وهو صندوق النقد الدولي.

جيمس باوتون هو زميل أول في مركز ابتكار الحكم الدولي، وسبق له العمل مؤرخا لصندوق النقد الدولي. وهو مؤلف كتاب هاري ديكستر وايت والعقيدة الأمريكية "Harry Dexter White and the American Creed".

الآراء الواردة في هذه المقالات وغيرها من المواد المنشورة تعبر عن وجهة نظر مؤلفيها، ولا تعكس بالضرورة سياسة صندوق النقد الدولي.