غرس بذور التحول المالي في العالم العربي
15 فبراير 2024
الحضور الكرام، السلام عليكم. أود أن أتقدم بالشكر لمعالي الوزير الحسيني على كرم الضيافة في دولة الإمارات العربية المتحدة، وأن أرحب بالدكتور التركي الذي يشارك للمرة الأولى في استضافة المنتدى متمنية له خالص النجاح في منصبه.
إن المنطقة العربية تضطلع بدور متزايد الأهمية في عالم سريع التغير. وينعكس ذلك في عمق تعاوننا وقوته. وفي المستقبل المنظور، سيقود وزراء من المنطقة دفة العمل في البنك الدولي وصندوق النقد الدولي – حيث تم تعيين الوزير الحسيني رئيسا للجنة التنمية والوزير الجدعان رئيسا للجنة الدولية للشؤون النقدية والمالية. وتشكل قيادة العالم العربي للمؤسستين خطوة فارقة أخرى نحو تحقيق الريادة العالمية للمنطقة.
ويعكس المنتدى الثامن للمالية العامة في الدول العربية – على غرار اجتماعاتنا السنوية في مراكش خلال الخريف الماضي – مدى نجاحنا في تعزيز الشراكة بين العالم العربي وصندوق النقد الدولي وتطويرها على مدار سنوات عديدة.
ويذكرني ذلك بمثل عربي قديم "أول الشجرة بذرة".
وفي وقت التحديات الاقتصادية والاضطرابات الجغرافية-السياسية والحرب، علينا فورا أن نغرس البذور – بذور النمو والتعاون والسلام والرخاء. ولكن في أي تربة سنغرس نبتتنا؟
لننظر إلى الأوضاع الحالية والمشهد المستقبلي.
رغم استمرار أجواء عدم اليقين الشديدة بسبب التطورات المفجعة في الصراع بين إسرائيل وغزة، فإننا أكثر ثقة قليلا حيال الآفاق الاقتصادية. فقد أثبت الاقتصاد العالمي صلابة مفاجئة، ومن المنتظر أن يشهد هبوطا هادئا خلال عام 2024 في ظل التراجع المطرد في معدلات التضخم. وتجاوز النمو التوقعات في العام الماضي، ونتوقع أن يبلغ 3,1% هذا العام. ولكن لا يسعنا إعلان الانتصار قبل الأوان.
فعلى المدى المتوسط، لا تزال آفاق النمو ضعيفة، حيث تقترب من 3% مقابل متوسط تاريخي بلغ 3,8% تقريبا خلال عقود ما قبل الجائحة. وتخيم على آفاق تحسن النمو أسعار الفائدة المرتفعة حتى الآن والحاجة إلى استعادة الاستدامة المالية عقب سنوات من زيادة الإنفاق العام. ويمكن أن تشرق آفاق النمو بفضل التطورات التكنولوجية، مثل تقدم الذكاء الاصطناعي، بشرط أن نكون مستعدين لها. فتحليلاتنا تشير إلى أن 40% تقريبا من الوظائف معرضة لمخاطر الذكاء الاصطناعي –على مستوى العالم ككل وفي العالم العربي أيضا – مما يجعل العديد من البلدان غير مستعدة لحجم ونطاق التحول الذي ستشهده اقتصاداتها. وفي هذا السياق، أود أن أشيد بما أبدته بعض البلدان حول هذه الطاولة – مثل دولة الإمارات التي تستضيفنا اليوم – من بصيرة نافذة من خلال دعم قدراتها للاستفادة من إمكانات الذكاء الاصطناعي. ولكن البلدان التي تفتقر إلى البنية التحتية والعمالة الماهرة اللازمتين للاستفادة من هذه التكنولوجيا قد تبتعد أكثر فأكثر عن ركب البلدان الأخرى.
أما عن الآفاق الحالية لمنطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، فنتوقع أن يصل نمو إجمالي الناتج المحلي إلى 2,9% هذا العام – ليتجاوز مستواه في العام الماضي وإن كان يظل دون توقعاتنا الصادرة في أكتوبر.
ويعزى ذلك في المقام الأول إلى تخفيض إنتاج النفط على المدى القصير، والصراع في غزة وإسرائيل، والسياسات النقدية المشددة التي لا تزال ضرورية حتى الآن. ويمثل تباطؤ النمو خارج القطاع الهيدروكربوني في البلدان المصدرة عاملا آخر. وعلى المدى المتوسط، ستتزايد الآثار السلبية الناتجة عن تراجع الطلب على النفط. وفي الوقت نفسه، ترزح البلدان المستوردة للطاقة على أساس صاف تحت وطأة الديون واحتياجات الاقتراض التي بلغت مستويات غير مسبوقة، ومحدودية قدرتها على الوصول إلى التمويل الخارجي.
ومن المنظور الاقتصادي، كانت تداعيات الصراع مدمرة في غزة، حيث تهاوى النشاط بنسبة 80% منذ أكتوبر وحتى نهاية ديسمبر مقارنة بالعام الماضي – وفي الضفة الغربية حيث بلغ الانخفاض 22%. ومع استمرار الصراع، تتدهور الآفاق القاتمة للاقتصاد الفلسطيني – ولا سبيل إلى أي تحول جذري دون التوصل إلى سلام دائم وحل سياسي. وسيواصل صندوق النقد الدولي تقديم المشورة بشأن السياسات والمساعدة الفنية إلى السلطة الفلسطينية وسلطة النقد الفلسطينية.
وبالنظر إلى البلدان المجاورة مباشرة، يؤثر الصراع على قطاع السياحة الذي يمثل شريان حياة للعديد منها. ونراقب التداعيات على المالية العامة عن كثب، والتي يمكن رؤيتها في بعض المجالات، مثل زيادة الإنفاق على شبكات الأمان الاجتماعي والدفاع.
وعبر المنطقة ما وراءها، نستشعر التداعيات من خلال تزايد تكاليف الشحن وانخفاض حركة عبور السفن في البحر الأحمر – بما يزيد على 40% تقريبا هذا العام حسب بياناتنا على منصة PortWatch.
ويساهم ذلك في تصاعد التحديات عبر الاقتصادات التي لا تزال في طريقها إلى التعافي من صدمات سابقة. وكلما طالت مدة الصراع، ازدادت المخاطر التي تهدد باتساع دائرة الصراع وتفاقم الضرر الاقتصادي.
غير أن العالم العربي قادر على غرس بذور مستقبل أفضل وأكثر استقرارا في خضم هذه الأوضاع المحفوفة بالتحديات. فبإمكانه تلبية احتياجات إعادة الإعمار المستقبلية، وتعزيز الصلابة، وتوفير الفرص التي تلتمسها كتلته السكانية المتنامية.
ولذلك فإنه في حاجة إلى الحيز المالي.
هذه هي الشجرة التي علينا أن نزرعها، صلبة كشجرة الغاف الوطنية لدولة الإمارات العربية، وقادرة على الصمود في مواجهة الصدمات لتظل مثمرة على الدوام.
وأول ما تقتات عليه الشجرة هو تعبئة الإيرادات. وبوسع البلدان زيادة طاقتها الضريبية من خلال تعزيز المؤسسات وتحسين تصميم الأطر وتقوية آليات جمع الإيرادات.
ويعد تصميم السياسة الضريبية عنصرا أساسيا في هذا الصدد. وقد نجحت بلدان عديدة في تطوير نظم ضريبة القيمة المضافة. ففي بعض البلدان مثل المغرب، تم رفع ضريبة الدخل الشخصي – وهي غير مستغلة بالقدر الكافي في المنطقة – وأصبحت أكثر تصاعدية. وانضمت 11 بلدا عربيا بالفعل إلى الاتفاقية العالمية بشأن الحد الأدنى لضريبة الشركات.
ويتعين على البلدان المصدرة للنفط تنويع أنشطتها بدلا من الاعتماد على الإيرادات الهيدروكربونية – ففي دولة الإمارات، تم تفعيل ضريبة اتحادية بواقع 9% على دخل الشركات في العام الماضي. كذلك يمكن للبلدان غير المصدرة للسلع الأولية الحد من الإعفاءات ومعدلات الضريبة التفضيلية، على غرار تونس.
ونظرا لأن ما يزيد على 50% من الإيرادات الضريبية للمنطقة يأتي من الجمارك وغيرها من الضرائب غير المباشرة، يعمل كل من الأردن والسعودية على تطوير نظم الفوترة الإلكترونية. ويمكن تحقيق نتائج مذهلة من دعم الامتثال.
ثانيا، يمكن أن تنمو الشجرة بإلغاء دعم الطاقة التنازلي.
ويشهد المنتدى غدا إطلاق دراسة صادرة عن صندوق النقد الدولي تشير إلى أن الإلغاء التدريجي للدعم الصريح على الطاقة – بما في ذلك في البلدان المصدرة للنفط – يمكن أن يوفر على المنطقة 336 مليار دولار أمريكي – أي ما يعادل اقتصاد العراق وليبيا مجتمعين. وعلاوة على هذه الوفورات، سيسهم ذلك في الحد من التلوث وتحسين الإنفاق الاجتماعي – مما يعني تحقيق ثلاثة مكاسب.
وقد نجحت خطط إصلاح الدعم الشاملة في مصر والأردن والمغرب، حيث تضمنت حملات قوية للتواصل مع الجمهور، وزيادات تدريجية ملائمة في الأسعار، ودعما نقديا موجها لصالح الفئات الأكثر ضعفا.
أما السبيل الثالث إلى تغذية المالية العامة، فيكمن في تحسين أداء الشركات المملوكة للدولة. فكما نقول في صندوق النقد الدولي، ليس المهم فقط ما تدين به، بل ما تملكه. والشركات المملوكة لدول العالم العربي تملك الكثير، حيث تتجاوز أصولها 50% من إجمالي الناتج المحلي، وتصل النسبة إلى 100% في بعض البلدان.
وتتصدى عُمان لهذه المشكلة مباشرة من خلال تعزيز صلابة الحوكمة، وتحسين المساءلة، وتقوية الإدارة المالية في الشركات المملوكة للدولة – كما تخطط لإجراء بعض عمليات البيع.
والنتيجة؟ تراجعت ديون الشركات المملوكة للدولة من 41% من إجمالي الناتج المحلي في عام 2021 إلى 30% في عام 2022.
وبفضل الإيرادات الجديدة وزيادة كفاءة الإنفاق، ستنمو شجرتنا وتنتج المزيد من الثمار. فتجدون منها الحيز المالي اللازم للحفاظ على استدامة القدرة على تحمل الدين وبناء الصلابة ضد الصدمات في الأجل القصير. وتساعدكم في المدى الأطول على تنفيذ العقد الاجتماعي الجديد الذي توافقنا عليه في مراكش لتعجيل وتيرة التحول في اقتصاداتكم من أجل مستقبل أكثر خضرة واحتواء للجميع وكذلك أكثر اعتمادا على التكنولوجيا الرقمية. لنفكر في الاستثمارات اللازمة استعدادا لعصر الذكاء الاصطناعي، كتعزيز مهارات العمالة وإتاحة الإنترنت للمزيد من سكان البلدان منخفضة الدخل. أو في خطوات مثل صياغة استراتيجية وطنية وقواعد تنظيمية واضحة للذكاء الاصطناعي، وهو ما جعل الإمارات العربية المتحدة في أعلى مراتب "مؤشر الجاهزية للذكاء الاصطناعي" الذي أطلقه صندوق النقد الدولي.
وستستفيد هذه الجهود بكافة جوانبها من التعاون والتضامن داخل المنطقة. وفي هذا الصدد، يتعين استمرار الدعم القوي الذي تقدمه بلدان مجلس التعاون الخليجي.
وبينما تسعون إلى إحداث التحول المرجو في اقتصاداتكم، فإن الصندوق على استعداد لتقديم العون.
فمنذ بداية الجائحة، قدم الصندوق لمنطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا حوالي 64 مليار دولار أمريكي في صورة سيولة واحتياطيات، منها 8 مليارات دولار أمريكي العام الماضي. كذلك، تم تخصيص 1,6 مليار دولار أمريكي عبر أداة الصندوق الجديدة – الصندوق الاستئماني للصلابة والاستدامة – لمساعدة المغرب وموريتانيا في التحول إلى اقتصادين أكثر خضرة.
وبالتعاون مع البنك الدولي، قدمنا 4,5 مليار دولار أمريكي لتخفيف الديون عن كاهل الصومال – وهو ما يمثل نتاج سنوات من إعادة البناء.
كذلك، كثفنا جهودنا في مجال تنمية القدرات عبر المنطقة، كما يعمل مكتبنا الجديد في الرياض على تعزيز تواجدنا وشراكاتنا مع المؤسسات العربية.
وخلاصة القول إننا دائما ما سنكون هنا – لمساعدتكم في تنمية مالياتكم العامة، كشجرة لديها من القوة ما يكفي للصمود في وجه أسوأ العواصف وأشد موجات الجفاف.
وفي صلابة الغاف وبهائها وقدرتها على التكيف ما جعلها أكثر من مجرد شجرة بالنسبة لدولة الإمارات – فقد أصبحت رمزا للاستقرار والسلام.
وبالعمل على إحداث التحول المرجو في الاقتصادات، سنتخطى بإنجازاتنا كل حدود.
شكرا.