بناء الجسور نحو نمو قوي في المستقبل
5 أكتوبر 2023
فخامة الرئيس الحسن واتارا،
السيد أداما كوليبالي،
السادة الوزراء،
وأعضاء البرلمان،
وأعضاء السلك الدبلوماسي،
وقادة المنظمات الدولية،
الضيوف الكرام،
السيدات والسادة، مساء الخير، وشكرا لكم على استقبالكم الحار هنا في أبيدجان.
أُتيحت لي في وقت سابق اليوم فرصة عبور جسر الحسن واتارا الرائع. ولا يمثل هذا الرابط الجديد في منظومة النقل أهمية بالغة لهذه المدينة فحسب، بل يمثل رمزا للتحول الذي أحرزته كوت ديفوار – من اقتصاد هش متأثر بالصراعات منذ ما يزيد على عشر سنوات إلى أحد الاقتصادات الأسرع نموا في إفريقيا. ونحن في حاجة إلى أن تعم روح التفاؤل تلك جميع أنحاء العالم!
وأقف بينكم اليوم بسبب رابط مهم آخر – بين إفريقيا وصندوق النقد الدولي.
فالأسبوع القادم سيشهد انعقاد اجتماعاتنا السنوية في مراكش حيث يلتقي وزراء المالية ومحافظو البنوك المركزية من 190 بلدا. وتتزامن هذه الاجتماعات مع ذكرى سنوية مهمة، ألا وهي مرور نصف قرن على انعقاد اجتماعاتنا السابقة في إفريقيا – في نيروبي عام 1973. فبعد أسابيع قليلة من الزلزال المروع، سيستقبل المغرب المجتمع الدولي تعبيرا عن روح التضامن والالتزام بالتغلب على ما نواجهه من تحديات. وأود أن أعرب عن عميق تعاطفي مع الشعب المغربي وامتناني لاستضافته الكريمة لاجتماعاتنا.
وخلال الخمسين عاما الماضية منذ اجتماعاتنا السابقة في إفريقيا، شهد العالم أشكالا عديدة من التحولات – ارتفاع العمر المتوقع، وتراجع الفقر عالميا، وتكيف النظام النقدي الدولي مع مرونة أسعار الصرف، وتحول طبيعة العمل والترفيه والتواصل بفعل التكنولوجيا. ولكن من ناحية أخرى، تزايدت أوجه عدم المساواة داخل البلدان وفيما بينها، ونواجه حاليا أزمة مناخية وجودية، كما سجل النمو مسارا تنازليا على مدار العقد الماضي.
ويستدعي ذلك عددا من الإجراءات لتمهيد الطريق نحو الخمسين عاما القادمة. فهدفنا يجب أن يكون بناء الجسور نحو نمو مستقبلي قوي يتسم بالاستدامة ويحتوي الجميع.
وهذا ما سيكون محور كلمتي اليوم. إن وجودي هنا في أبيدجان، على الأراضي الإفريقية، يلهمني الكثير من تجربة إفريقيا. فعلى وجه هذه القارة، يمكننا أن نرى التحديات التي يواجهها العالم، وكأنما ننظر إليها عبر عدسة مكبرة. غير أننا نرى أيضا إمكاناتها الهائلة. فإفريقيا تزخر بالموارد، حيث لا حدود للإبداع والطاقة، وهي موطن الكتلة السكانية الأكثر شبابا والأسرع نموا في العالم.
وأقول ببساطة إن رخاء الاقتصاد العالمي في القرن الحادي والعشرين مرهون برخاء إفريقيا. فالاقتصادات المتقدمة تشهد زيادة سريعة في أعداد المسنين، ولكنها تتمتع بوفرة رأس المال. والحل يكمن في تعزيز الرابط بين رؤوس الأموال تلك والموارد البشرية التي تزخر بها إفريقيا – لضخ المزيد من الديناميكية في آفاق النمو العالمي التي تبدو هزيلة في الوقت الحالي.
وإفريقيا هي حجتنا الأقوى كذلك على ضرورة بناء الصلابة الاقتصادية. فجائحة كوفيد-19، وحرب روسيا في أوكرانيا، والكوارث المناخية، وأزمة تكلفة المعيشة، وعدم الاستقرار السياسي هي وجوه كثيرة لعالم عرضة للصدمات. ونراها حاضرة بكامل وطأتها في إفريقيا إلى جانب الحاجة الطاغية إلى المزيد من الاستعدادات لمواجهة هذا العالم.
ورخاء إفريقيا يتوقف بدوره على الحفاظ على الجسر الأهم على الإطلاق الذي يربط البلدان كافة، ألا وهو جسر التعاون الدولي.
وكما يقولون في أبيدجان: "On est ensemble" – "متحدون معا"، فإننا سنحرص بدورنا على أن يكون لقاؤنا خلال الاجتماعات في صالح سكان جميع بلداننا الأعضاء.
الآفاق العالمية: اقتصاد صلب في مواجهة التحديات الناجمة عن ضعف النمو واتساع فجوة التباعد
لنبدأ بالآفاق الاقتصادية. فقد أثبت الاقتصاد العالمي صلابة ملحوظة، وجاء النصف الأول من عام 2023 حاملا معه بعض الأنباء السارة، وهو ما يُعزى أساسا إلى الطلب القوي على الخدمات الذي فاق التوقعات والتقدم الملموس في الحرب على التضخم.
وباتت فرصة الاقتصاد العالمي أكبر في تحقيق هبوط هادئ، وإن كان يتعين علينا الاستمرار في توخي الحذر.
فلا يزال التعافي من الصدمات التي شهدتها السنوات القليلة الماضية مستمرا – ولكنه تعاف بطيء وغير متوازن. وكما سيتضح لكم من تنبؤاتنا المحدثة التي تصدر الأسبوع القادم، تظل الوتيرة الحالية للنمو العالمي ضعيفة للغاية، حيث سجلت تراجعا كبيرا عن متوسطها البالغ 3,8% خلال العقدين السابقين على الجائحة. وتشهد توقعات النمو المزيد من الانخفاض مستقبلا على المدى المتوسط.
غير أننا نشهد فروقا صارخة في ديناميكيات النمو، حيث يتزايد الزخم القادم من الولايات المتحدة، وتبرز نقاط مضيئة في الهند وعدة اقتصادات صاعدة أخرى، بما في ذلك كوت ديفوار. لكن التباطؤ يسود معظم الاقتصادات المتقدمة. ويتراجع النشاط الاقتصادي في الصين إلى ما دون المتوقع، ويبدو النمو هزيلا عبر العديد من البلدان. ويهدد التشرذم الاقتصادي بالمزيد من التراجع في آفاق النمو، لا سيما في الاقتصادات الصاعدة والنامية، بما في ذلك هنا في إفريقيا.
ويؤدي ذلك إلى اتساع فجوة التباعد في حجم الثروات الاقتصادية بين مختلف مجموعات البلدان وداخلها. ويُعزى ذلك جزئيا إلى "الآثار الاقتصادية الغائرة". فحسب تقديراتنا، تبلغ خسائر الناتج العالمي التراكمية إثر الصدمات المتتالية منذ عام 2020 3,7 تريليون دولار أمريكي حتى عام 2023.
وتتوزع هذه الخسائر على نحو غير متكافئ عبر البلدان. فلم نشهد عودة الناتج إلى مسار ما قبل الجائحة سوى في الولايات المتحدة دون غيرها من الاقتصادات الكبرى. ولا يزال باقي العالم دون مستوى الاتجاه العام، كما يقع على البلدان منخفضة الدخل الضرر الأكبر على الإطلاق. لماذا؟ يكمن السبب في قدرتها المحدودة للغاية على وقاية اقتصاداتها ودعم أكثر الفئات ضعفا.
ويُعزى التباعد أيضا إلى الفروق في الحيز المتاح أمام السياسات والأساسيات الاقتصادية الكلية، ومدى الاعتماد على واردات الوقود والغذاء، وفي نصيب السلع مقابل نصيب الخدمات في الاقتصاد، ودور التجارة، وزخم الإصلاحات، ووتيرة الحرب على التضخم – وجميعها عوامل مؤثرة على اختيار السياسات في البلدان وأدائها الاقتصادي. ويؤدي ذلك بدوره إلى المزيد من الاختلافات بين توجهات البلدان.
سياسات من أجل نمو أكثر قوة في المستقبل
في ظل هذه الاتجاهات المتباعدة، يضطلع الصندوق بدور مهم في مساعدة البلدان في تحديد خيارات السياسات الملائمة وتبني استراتيجيات ناجحة لتحقيق النمو. وتبرز ثلاث سياسات ذات أولوية في هذا الصدد.
أولا، تعزيز الاستقرار الاقتصادي والمالي.
تأتي مكافحة التضخم على رأس الأولويات. وبفضل التحركات الحاسمة للبنوك المركزية وسياسات المالية العامة المسؤولة، يتراجع التضخم في معظم البلدان، لكنه سيظل متجاوزا لمستوياته المستهدفة على الأرجح، حتى عام 2025 في بعض البلدان. ويؤدي ارتفاع التضخم إلى تقويض ثقة المستهلكين والمستثمرين، وتآكل أسس النمو، لكن ضرره الأكبر يقع على كاهل الفئات الأكثر فقرا في المجتمع.
ويقتضي الفوز في الحرب على التضخم الاستمرار في رفع أسعار الفائدة لفترة أطول. ومن الضروري تجنب تيسير السياسات قبل الآوان، في ظل خطر تجدد النوبات التضخمية. ويشير تحليل جديد صادر عن صندوق النقد الدولي إلى تزايد أهمية توقعات التضخم باعتبارها أحد المحركات وراء ارتفاع الأسعار.[1] وعلى صناع السياسات الإعلان عن أهدافهم بوضوح للمساعدة في تشكيل رؤية المواطنين للتضخم.
وعليهم أيضا حماية الاستقرار المالي. فقد ساهمت التوقعات بشأن "الهبوط الاقتصادي الهادئ" في رفع أسعار مختلف فئات الأصول. ولكن التحول السريع في هذه التوقعات – في حالة الارتفاع المفاجئ في معدلات التضخم مجددا – قد يؤدي إلى تشديد حاد في الأوضاع المالية، مما قد يلحق ضررا بالغا بالأسواق والاقتصادات.
ويفرض ضيق أوضاع الائتمان ضغوطا بالفعل على العديد من المقترضين، مثل شركات العقارات التجارية في الولايات المتحدة وأوروبا. ومن دواعي القلق في الصين استمرار الضغوط في قطاع العقارات، وارتفاع مستويات الرفع المالي في بعض أجزاء القطاع غير المصرفي.
وتواجه البنوك ضغوطا بدورها، كما ستقرأون على صفحات تقرير الاستقرار المالي العالمي الأسبوع القادم.[2]
كذلك نواجه حاليا مخاطر جسيمة على جانب المالية العامة. وفي سبيل التأهب لصدمات الغد وتنفيذ الاستثمارات الحيوية، يتعين على البلدان إعادة بناء الحيز اللازم في ميزانياتها لضمان حرية التصرف. وفي معظم الأحوال، يعني ذلك تشديد سياسة المالية العامة – التي من شأنها أن تدعم السياسة النقدية أيضا حيثما لا تزال الضغوط التضخمية قوية.
إن مكامن الخطر كثيرة؛ فالصدمات التي تلقيناها خلال السنوات القليلة الماضية تسببت في زيادة أعباء الدين عبر العديد من البلدان، بما في ذلك في إفريقيا. وأدى ذلك إلى تقلص أو نفاد الحيز المالي المتبقي – إلى جانب تزايد تكلفة خدمة الدين – ليضع العديد من الحكومات أمام قرارات صعبة. ويعني ذلك تحديد أولويات الإنفاق وإعلان خطط مالية عامة واضحة على المدى المتوسط لبناء المصداقية وخفض مستويات الدين.
وتعكف بعض البلدان في إفريقيا على إصلاح دعم الطاقة لإتاحة الحيز اللازم للإنفاق التنموي. فقد نجحت نيجيريا على سبيل المثال في إلغاء دعم الوقود مؤخرا الذي بلغت تكلفته نحو 10 مليارات دولار أمريكي العام الماضي – أي ما يعادل أربعة أضعاف ما تنفقه على قطاع الصحة.
والعديد من البلدان في حاجة أيضا إلى توليد إيرادات محلية أكبر وأكثر موثوقية. وهذا هو أحد المجالات التي قدم فيها الصندوق الدعم إلى حوالي 150 بلدا عضوا خلال العامين الماضيين فقط – حيث ساعد في تحسين تصميم الضرائب وإدارتها وتعزيز المؤسسات الضريبية ذات الصلة وتطوير أسواق رأس المال المحلية. وقد أثبتت عدة بلدان، مثل موزامبيق ونيبال ورواندا، إمكانية تحقيق زيادات ملموسة في الإيرادات.
ويقودني ذلك إلى الأولوية الثانية، ألا وهي إرساء الأسس اللازمة لنمو مستدام يحتوي الجميع من خلال إصلاحات تحولية وبناء مؤسسات عامة قوية.
إن التاريخ يعلمنا أن البلدان الفقيرة تصبح غنية بتعليم المواطنين، وإنشاء بنية تحتية جيدة، وضمان فعالية الحوكمة مع احترام سيادة القانون. وهذه العناصر ليست ثابتة: فالمهارات المطلوبة تتغير، والبنية التحتية اليوم تتضمن الربط الرقمي وقنوات التجارة الحديثة، والمؤسسات آخذة في التطور. وفي الوقت نفسه، تظل هذه هي الركائز الثلاث للنمو والرخاء – في جميع البلدان، وخاصة حيث تكون الحاجة إلى توفير فرص عمل للكتلة السكانية سريعة النمو أشد إلحاحا.
اسمحوا لي أن أتناول هذه الركائز الثلاث بالتفصيل.
أولا، وقبل كل شىء، الحاجة إلى الاستثمار في البشر. في إفريقيا، يعني ذلك التوسع في التعليم عالي الجودة على جميع المستويات، حتى يتمكن الشباب من اغتنام فرص العمل في الغد، كما يعني تكثيف الاستثمار في الرعاية الصحية. وهنا تحديدا، في كوت ديفوار، تعمل الحكومة على تكثيف استثماراتها في الشباب وتتخذ التدابير لزيادة تنويع نشاطها الاقتصادي.
ثانيا، الحاجة إلى معالجة فجوات البنية التحتية —القديمة والجديدة. ويعني ذلك بالتأكيد البنية التحتية المادية الأساسية، كما هي حال الجسور الجديدة هنا في أبيدجان. ولكن كذلك، شبكات الطرق التي تشتد الحاجة إليها في المناطق الريفية، والتوسع في تغطية الكهرباء وغيرها.
وهذه الاستثمارات يجب أن تنطوي على شروط التحول الأخضر. ويتطلب ذلك استثمارات ذكية في التكيف والبنية التحتية والتكنولوجيا، مثل تحسين نظم الري. وينطوي تحول نظام الطاقة على فرص نمو قوية.
ويدخل التحول الرقمي ضمن فئة البنية التحتية. وتماما مثلما كانت الكهرباء هي الداعمة للتنمية الاقتصادية في القرن العشرين، بإمكان التحول الرقمي أن يكون هو عماد التطور في القرن الحادي والعشرين. فهو يتيح للبلدان الإفريقية أعظم فرصة للحاق بالركب.
ونرى بالفعل الكثير من الأمثلة على أرض الواقع في المنطقة خلال السنوات الأخيرة. فمنصة "إم-بيسا" للخدمات المصرفية عبر الأجهزة المحمولة في كينيا، اتسعت وأصبحت تغطي ستة بلدان أخرى في إفريقيا، لرفع مستوى كفاءة سداد المدفوعات والشمول المالي. أو لننظر إلى "Hello Tractor"، وهي منصة تعمل في العديد من البلدان الإفريقية وتتيح للمزارعين إمكانية استئجار جرارات برسالة نصية، فأوجدت فرصا جديدة أمام مزيد من الناس.
والشركات المبتدئة الإفريقية تقدم ابتكاراتها المبهرة. وزيادة الاستثمارات في توفير خدمة الإنترنت سوف تطلق العنان لإبداع القارة وتحسين الخدمات العامة. وأثناء فترة الجائحة، أطلقت توغو برنامج مدفوعات رقمية يحمل اسم "نوفيسي"، والذي أرسل تحويلات نقدية طارئة للسكان المحتاجين.
والركيزة الثالثة هي ضرورة تحسين الحوكمة وقدرة الدولة على تعزيز النمو الاحتوائي. ويبين تحليل جديد أجراه صندوق النقد الدولي[3] ما يمكن تحقيقه على مستوى البلدان الصاعدة والنامية. فوضع حزمة إصلاحات، تركز على الحد من الروتين الإداري، وتحسين الحوكمة، وتقليل القيود التجارية، يمكن أن يرفع ناتجها بمقدار 8% خلال أربع سنوات.
وأضع الإصلاحات اللازمة لتحقيق الاستفادة الكاملة من منطقة التجارة الحرة القارية الإفريقية ضمن هذه الفئة. فإزالة الحواجز التجارية وتحسين بيئة التجارة الأوسع نطاقا سوف تدفع نصيب الفرد من الدخل في متوسط البلدان الإفريقية إلى الارتفاع بما يتجاوز 10%. والتنفيذ الكامل لهذه الاتفاقية سيجعل إفريقيا تحول نفسها إلى أكبر منطقة تجارة حرة في العالم – وتحقق بالتالي ارتفاعا كبيرا في مستويات المعيشة.
وهذا ما يأخذني إلى الأولوية الثالثة على صعيد السياسات – دعم الصلابة الجماعية من خلال التعاون الدولي.
ففي ذات الوقت الذي نكون في أشد الحاجة إليه، تجد التعاون آخذا في التراجع. والجسور التي تربط بين البلدان آخذة في التآكل مع ارتفاع الحواجز أمام التجارة والاستثمار.
وفي عالم مشتت، تواجه البلدان الصاعدة والنامية تحديات كبيرة، بسبب اعتمادها بدرجة أكبر على التجارة ونتيجة لما لديها من حيز أقل للتصرف من خلال السياسات. ومقارنة بالمناطق الأخرى، فإن القارة الإفريقية هي التي ستعاني من أفدح الخسائر الاقتصادية التي تنجم عن التشتت الحاد.
وهو تحدٍ يجب أن نتصدى له معا.
وليس ثمة أدل على الحاجة إلى التعاون الدولي من مجال التصدي للتهديدات الوجودية الناجمة عن تغير المناخ. فالعالم تقع على عاتقه مسؤولية الوقوف مع البلدان المعرضة للمخاطر في تعاملها مع الصدمات التي لا يد لها في وقوعها.
ولهذ السبب أنشأ صندوق النقد الدولي صندوقا جديدا قويا بموارد بلغت 40 مليار دولار هو الصندوق الاستئماني للصلابة والاستدامة(RST). ويقدم تمويلا أطول أجلا بتكلفة ميسورة لمساعدة بلدان الأسواق الصاعدة الأقل دخلا والمعرضة للمخاطر على إجراء الإصلاحات المناخية. وقد وافقنا بالفعل على أحد عشر برنامجا، ستة منها في إفريقيا، سيتبعها المزيد على مدار العام أو العامين القادمين.
ويتعين علينا كذلك أن نعمل معا من أجل مساعدة البلدان على التعامل مع التحديات التي تفرضها الديون. فحوالي خُمس الاقتصادات الصاعدة وأكثر من نصف البلدان منخفضة الدخل لا يزال معرضا لمخاطر كبيرة من الدخول في حالة المديونية الحرجة.
وفي هذا الصدد، حققنا تقدما ملموسا في الأشهر الأخيرة. فالإطار المشترك بدأ يحقق النتائج المرجوة وإن كان لا يزال ببطء شديد. وقد عملنا مع مجموعة العشرين برئاسة الهند ومع البنك الدولى، وأنشأنا "اجتماع المائدة المستديرة بشأن الديون السيادية العالمية"، التي تجمع الدائنين من القطاعين العام والخاص والبلدان المدينة معا. وعلى سبيل المثال، استغرق الأمر 11 شهرا لتنتقل تشاد من اتفاق على مستوى الخبراء مع صندوق النقد الدولي إلى الحصول على الضمانات اللازمة من الدائنين للموافقة على البرنامج؛ وبعد ذلك استغرق الأمر 9 أشهر كي تستطيع زامبيا الوصول إلى هذه النقطة المهمة، و6 أشهر في حالة سري لانكا، و5 أشهر في حالة غانا. وكنا نود أن نرى تقدما بوتيرة أسرع، إلا أننا نتحرك في الاتجاه الصحيح!
حتى مع ذلك، هناك حاجة إلى عمل المزيد لدعم البلدان الصاعدة والنامية المعرضة للمخاطر. وهذا ما ترجع إليه حاجتنا الماسة إلى تعزيز شبكة الأمان المالي العالمية.
فاحتياطيات العملة، وخطوط تبادل النقد الأجنبي بين البنوك المركزية، والترتيبات المالية الإقليمية توفر جميعها بعض التأمين ضد الأزمات المالية. غير أن هناك حوالي 100 بلد صاعد ومنخفض الدخل معرض للمخاطر، بما فيها معظم البلدان الإفريقية، لا تملك احتياطيات كافية ولا تستطيع الاستفادة من خطوط تبادل العملات.
إذن، ليس ثمة ما يدعو إلى الدهشة في اعتمادها على الدعم من صندوق النقد الدولي، الذي يشغل موضع الصدارة في شبكة الأمان المالي العالمية. وفي كثير من الحالات، يكون الصندوق هو "ضامن من لا ضامن له".
فمنذ تفشي الجائحة، قدمنا تريليون دولار في هيئة سيولة واحتياطيات عالمية من خلال عملياتنا الإقراضية وتخصيص حقوق السحب الخاصة. وقدمنا قرابة 320 مليار دولار في هيئة تمويل إلى 96 بلدا. وزدنا بمقدار خمسة أضعاف تمويلنا بدون فوائد إلى 56 بلدا منخفض الدخل من خلال الصندوق الاستئماني للنمو والحد من الفقر. وعملنا مع البلدن الأعضاء الأقوى اقتصاديا لتوجيه حصة كبيرة من حقوق السحب الخاصة التي خُصِّصَت لها إلى البلدان الأضعف، مما ولد نحو 100 مليار دولار من التمويل الجديد من خلال تسهيلات صندوق النقد الدولي مثل الصندوق الاستئماني للنمو والحد من الفقر، وتسهيل الصلابة والاستدامة.
غير أن طاقة الإقراض من صندوق النقد الدولي تراجعت كنسبة من الالتزامات الخارجية العالمية على مدار العقود القليلة الماضية مع توسع الأسواق المالية. وشهدت نسبة الموارد المُقترَضة زيادة تدريجية.
ولتعزيز هذا الأساس في شبكة الأمان العالمية، نحن بالتالي ندعو بلداننا الأعضاء إلى تعزيز موارد الصندوق المستمدة من الحصص.
ونشجع أعضاءنا الأقوى على اتخاذ خطوة وتقديم مزيد من التمويل إلى الصندوق الاستئماني للنمو والحد من الفقر، وكذلك الصندوق الاستئماني للصلابة والاستدامة لضمان دعم بلدننا الأعضاء المعرضة للمخاطر.
واحتفاظ صندوق النقد الدولي بمستويات قوية وكافية من الموارد يعني كذلك أنه أكثر تجاوبا مع احتياجات الاقتصادات الصاعدة والنامية. وقد اتخذنا بالفعل إجراءات قوية استجابةً للصدمات الأخيرة، لكننا سنواصل تعزيز مجموعة أدواتنا، بما فيها تسهيلاتنا الوقائية.
وإذ يضم الصندوق في عضويته كل بلدان العالم تقريبا، فهو يضطلع بدور مهم في جمع البلدان معا. وهو ما يعني كذلك تعزيز صوت البلدان الصاعدة والنامية. وإنني أتطلع إلى موافقة أعضائنا على تخصيص مقعد ثالث لإفريقيا في مجلسنا التنفيذي.
ونواصل تصميم الدعم الذي يقدمه الصندوق حسب الظروف الخاصة بكل بلد عضو كما عززنا تواجدنا الفعلي على أرض الواقع من خلال شبكات واسعة من مكاتب ممثلي الصندوق المقيمين والمراكز الإقليمية لتنمية القدرات، بما فيها مركزنا هنا في أبيدجان.
الختام
اسمحوا لي أن أختتم كلمتي بالعودة إلى عام 1973، وهي آخر سنة شهدت انعقاد الاجتماعات السنوية في إفريقيا. في ذلك الوقت، واجه المندوبون الكثير من التحديات نفسها التي نواجهها اليوم: ارتفاع التضخم والصراعات والتحولات الاقتصادية الأساسية.
وفي كلمته أمام الاجتماعات السنوية حينها، أعلن الرئيس الكيني جومو كنياتا أن "الحاجة إلى تعاون فعال بلغت أوجها". واختتَم بكلمة واحدة هي “هارامبي" أي "دعونا نتكاتف ونحقق التعاون الكامل".
ومن خلال السياسات الصحيحة — و"هارامبي"—نستطيع أن نبني جسرا يصل بنا إلى مستقبل أكثر ازدهارا وسلاما. يمكننا أن نضع الأسس لنصف قرن أكثر إثارة للإعجاب من ذلك النصف الأخير.
وها نحن متحدون معا!
شكرا جزيلا.
*************************************
[1] راجع الفصل الثاني بعنوان "إدارة التوقعات: التضخم والسياسة النقدية" في عدد أكتوبر 2023 من تقرير آفاق الاقتصاد العالمي.
[2] راجع الفصل الثاني بعنوان "الكشف عن البنوك الضعيفة: منهج تحليلي جديد" في عدد أكتوبر 2023 من تقرير الاستقرار المالي العالمي.
[3] مذكرات مناقشات خبراء الصندوق Structural Reforms to Accelerate Growth, Ease Policy Trade-offs, and Support the Green Transition in Emerging Market and Developing Economies