القوى الاقتصادية وليست التعريفات الجمركية هي المحرك وراء تغيرات الموازين التجارية

بقلم: يوهانِّس أوغستر وفلورنس جوموت ومارغو ماكدونالد وروبرتو بياتسا

توصل بحث جديد صادر عن صندوق النقد الدولي إلى أن معظم التغيرات في الموازين التجارية بين أي بلدين تنتج عن العوامل الاقتصادية الكلية وليس عن التعريفات الجمركية.

أصبحت الموازين التجارية الثنائية (أي الفرق في قيمة الصادرات والواردات بين بلدين) موضع تركيز مؤخرا. فبعض صناع السياسات متخوفون من أن تكون الموازين التجارية الكبيرة والمتنامية نتاجا لإجراءات غير متوازنة تؤدي إلى تشويه التجارة الدولية. ولكن هل يصح التركيز على الموازين التجارية الثنائية؟

الإجابة باختصار هي لا. إذ يشير البحث الذي أجريناه في الفصل الرابع من عدد إبريل 2019 من تقرير آفاق الاقتصاد العالمي* إلى أن التغيرات الناتجة عن التعريفات الجمركية في الميزان التجاري بين بلدين عادة ما توازنها تغيرات في الموازين الثنائية مع شركاء آخرين نتيجة تحول مسار التجارة، فلا يكون لها تأثير يذكر أو تكون منعدمة التأثير على الميزان التجاري الكلي (حاصل جمع كل الموازين التجارية الثنائية).

وبالتالي، فإن المحرك الحقيقي للتجارة هو العوامل الاقتصادية الكلية. فقد توصلنا إلى أن معظم التغيرات في الموازين التجارية الثنائية خلال العقدين الماضيين كانت نتيجة الأثر المجمع للعوامل الاقتصادية الكلية – التي تشمل سياسة المالية العامة، والدورات الائتمانية، وفي بعض الحالات سياسات سعر الصرف واتساع نطاق الدعم المقدم للقطاعات التجارية. وفي المقابل كان أثر التغيرات في التعريفات الجمركية أقل من ذلك بكثير.

غير أن ذلك لا يعني أن التعريفات الجمركية لا تؤثر سلبا على البلدان. ففي ظل الاقتصاد العالمي الذي يعتمد على سلاسل القيمة العالمية (حيث تشترك بلدان عديدة في عملية الإنتاج)، فإن الزيادات الحادة في التعريفات الجمركية يمكن أن تؤدي إلى تكاليف اقتصادية كبيرة وتداعيات متوالية ملحوظة على المدى الطويل، مما يؤدي إلى تردي أوضاع الاقتصاد العالمي.

القوى الاقتصادية تفسر تغيرات الموازين التجارية الثنائية

يهدف بحثنا – الذي يستند إلى دراسة شملت 34 قطاعا في 63 بلدا على مدار 20 عاما – إلى فهم وقياس الأسباب وراء تغيرات الموازين التجارية الثنائية، وذلك من خلال التمييز بين تأثير كل من العوامل الاقتصادية الكلية والتعريفات الجمركية والتنظيم الدولي لعمليات الإنتاج – الذي ينعكس جزئيا في التكوين القطاعي للإنتاج والطلب في البلدان (مثل الصناعة التحويلية أو الخدمات أو الزراعة).

وقد توصلنا إلى أن تغيرات الموازين الثنائية على مدار العقدين الماضيين كانت إلى حد بعيد نتاجا لقوى الاقتصاد الكلي والتي تُعرف بدورها في تحديد حجم الموازين التجارية الكلية. ومن هذه العوامل سياسة المالية العامة، والأوضاع الديمغرافية، وضعف الطلب المحلي، ولكنها قد تتضمن أيضا سياسات سعر الصرف وسياسات العرض المحلية، مثل تقديم الدعم إلى الشركات المملوكة للدولة أو قطاعات التصدير.

وفي المقابل ، كانت التغيرات في التعريفات الجمركية الثنائية أقل تأثيرا، وهو ما يعكس تدني مستوياتها بالفعل في بلدان عديدة وحقيقة أن التخفيضات التبادلية في التعريفات الجمركية كان لها تأثير موازن على الموازين التجارية الثنائية. ويوضح الرسم البياني مساهمة كل من هذه العوامل في تغير الموازين التجارية الثنائية لبعض أزواج البلدان الكبرى. فعلى سبيل المثال، تفسر العوامل الاقتصادية الكلية حوالي 20% من التغير في الميزان التجاري بين الولايات المتحدة وألمانيا خلال الفترة 1995-2015 وما يزيد على 95% من التغير في الميزان التجاري بين الولايات المتحدة والصين.

weo-ch4-chart1 

نظرة أقرب على التعريفات الجمركية وتداعياتها

بالرغم من أن تحليلنا يشير إلى أن التأثير المباشر للتعريفات الجمركية على تغير الموازين التجارية الثنائية كان محدودا نسبيا مقارنة بالعوامل الاقتصادية الكلية، لا يعني ذلك عدم أهمية تأثير التعريفات الجمركية. فالتغيرات الكبيرة والمستمرة في التعريفات الجمركية على المدى الأطول يمكنها التأثير على تشكيل التنظيم الدولي لعمليات الإنتاج في ظل قيام الشركات بتعديل هياكل الاستثمار والإنتاج المحلية والدولية، كأن تنظم أنفسها في سلاسل قيمة عالمية – عمليات مختلفة في أجزاء مختلفة من العالم تضيف كل منها قيمة إلى السلع والخدمات المنتجة.

ومنذ منتصف التسعينات ، اقترن التراجع الكبير في تكلفة التجارة – أي التعريفات الجمركية وتكلفة النقل والاتصالات – باتساع نطاق سلاسل القيمة العالمية وزيادة تعقدها. وأتاح ذلك للبلدان زيادة إنتاجيتها وتوفير فرص عمل جديدة.

weo-ch4-chart2 

وفي ظل الطبيعة التكاملية للنظام التجاري العالمي الحالي، يتضح أن أي زيادة حادة في التعريفات الجمركية ستؤثر على البلدان وستنتج عنها تداعيات متوالية من بلد لآخر، مما سيؤدي إلى تردي أوضاع الاقتصاد العالمي. وتشير نتائجنا إلى أن زيادات التعريفات الجمركية سيقع تأثيرها السلبي على الناتج والوظائف والإنتاجية خصوصا، ولن يقتصر هذا التأثير على الاقتصادات التي تفرض هذه الزيادات وتواجهها مباشرة، ولكنه سيمتد إلى البلدان الأخرى في جميع أجزاء سلاسل القيمة.

وفي معظم البلدان، نجد أن التأثير السلبي لتطبيق زيادة عامة بمقدار نقطة مئوية واحدة في التعريفات الجمركية على الصناعات التحويلية (باستثناء الآثار المرتدة) سيكون أشد وطأة في الوقت الحالي عنه في عام 1995. وفي حالة ألمانيا وكوريا – وهما بلدان يمتلك كل منهما قطاعا ضخما للصناعات التحويلية مندمجا بدرجة كبيرة في سلاسل العرض العالمية – يبلغ هذا الفرق حوالي 0.5% و0.6% من إجمالي الناتج المحلي على الترتيب.

وعندما تكون زيادات التعريفات الجمركية موجهة إلى بلدان شريكة بعينها (بدلا من تطبيقها على جميع البلدان)، قد تستفيد بعض البلدان من تحول مسار التجارة نظرا لأن الطلب من البلد الذي يطبق التعريفة الجمركية يتحول إلى البلدان التي لا تواجه أي تعريفات جمركية. لذلك فإن التغيرات في الميزان التجاري الثنائي مع شركاء بعينهم نتيجة التعريفات الجمركية الثنائية عادة ما توازنها تغيرات في الموازين التجارية الثنائية مع شركاء تجاريين آخرين، وبالتالي يظل الميزان التجاري الكلي ثابتا دون تغيير يذكر.

weo-ch4-chart3 

الانعكاسات على مستوى السياسات

تؤيد هذه النتائج استنتاجين أساسين على جانب السياسات.

أولا، ينبغي أن تركز المناقشات بشأن الموازين التجارية على العوامل الاقتصادية الكلية التي عادة ما تحدد حجم الموازين التجارية الكلية. وينصح أن يتجنب صناع السياسات وضع سياسات اقتصادية كلية تشويهية، مثل سياسات المالية العامة المسايرة للاتجاهات الدورية (التي تمنح دفعات تنشيطية في وقت يكون فيه الطلب قويا بالفعل) أو تقديم الدعم المالي الضخم للقطاعات التصديرية على نحو يؤدي إلى اختلالات مفرطة – قد لا يمكن الاستمرار في تحملها. وما لم تتغير السياسات الاقتصادية الكلية، فإن استهداف موازين تجارية ثنائية بعينها لن يؤدي على الأرجح سوى إلى تحول مسار التجارة وموازنة التغيرات في الموازين التجارية مع الشركاء الآخرين، ولن يكون له بالتالي سوى تأثير طفيف على الميزان الإجمالي للبلد.

وثانيا، من شأن التخفيضات متعددة الأطراف في التعريفات الجمركية وغيرها من الحواجز غير الجمركية (مثل حصص الواردات أو تفاوت معايير المنتجات عبر البلدان) أن تفيد التجارة، وأن تحسن النتائج الاقتصادية على المدى الأطول. لذلك ينبغي أن يواصل صناع السياسات تشجيع التجارة الحرة العادلة من خلال إلغاء التعريفات الجمركية التي تم تطبيقها مؤخرا وتعزيز الجهود الهادفة إلى الحد من الحواجز الحالية على التجارة.

وفي الوقت نفسه، يتعين الإقرار بأن تحرير التجارة – مثله مثل التقدم التكنولوجي – يمكن أن تترتب عليه تصحيحات مكلفة في أوضاع بعض مجموعات العاملين والمجتمعات. ومن خلال وضع سياسات مثل برامج إعادة التدريب والمساعدة في البحث عن فرص العمل، وتوفير شبكات أمان اجتماعي كافية، وتعزيز نظم إعادة توزيع الدخل من خلال الضرائب والإعانات الاجتماعية، يمكن المساعدة في ضمان تقاسم منافع التجارة على نطاق أوسع وتوفير الحماية الكافية للأفراد والمجموعات الذين سبقهم الركب.   

* * * * * * *

يوهانِّس أوغستر يعمل اقتصاديا في قسم الرقابة متعددة الأطراف التابعة لإدارة البحوث في صندوق النقد الدولي، حيث يتركز عمله في التداعيات الدولية والقضايا المتعلقة بمجموعة العشرين. وقد سبق له العمل في الإدارة الأوروبية وإدارة الاستراتيجيات والسياسات والمراجعة. وتركز أبحاثه على القضايا المتعلقة بالاختلالات الدولية والتداعيات وأثر الإصلاحات الهيكلية. والسيد يوهانِّس حاصل على درجة الدكتوراه في الاقتصاد من معهد الدراسات العليا في جنيف.

فلورنس جوموت تعمل نائب رئيس قسم في إدارة البحوث بصندوق النقد الدولي. وقد عملت في قسم الرقابة متعددة الأطراف وقسم الدراسات الاقتصادية العالمية التابعين للإدارة، إلى جانب عدد من الفِرَق القُطْرِية المتخصصة. وتركز أبحاثها على مؤسسات وسياسات سوق العمل، وعدم المساواة في توزيع الدخل، وقضايا الاقتصاد الكلي في سياق الاقتصاد المفتوح. وقبل الانضمام إلى الصندوق، عملت السيدة جوموت في إدارة الاقتصاد بمنظمة التعاون والتنمية في الميدان الاقتصادي (OECD) في باريس، وهي حاصلة على درجة الدكتوراه في الاقتصاد من جامعة هارفارد.