توخي ديمقراطية الابتكار يحقق الاستفادة من المواهب غير المستغلة ويحفز النمو الاقتصادي
رغم المثل الشائع الذي قاله أفلاطون منذ 2400 سنة، فإن الحاجة وحدها ليست أم الاختراع. فمن الضروري كذلك توفير الفرصة. فاحتمالية أن يصبح الفرد مبتكرا هي انعكاس لخلفية الوالدين من حيث الدخل والعوامل الاجتماعية، وفق ما يتضح من دراسة بحثية صدرت مؤخرا. فالأطفال ذوو الموهبة العالية المنحدرون من خلفيات محرومة غالبا ما تكون درجة ابتكارهم أقل كثيرا من إمكاناتهم، بينما يحظى الأطفال من الأسر الأكثر ثراء أو الأعلى تعليما بفرصة أكبر كثيرا للابتكار.
وهذا يخلق ظاهرتي "أمثال أينشتاين المفقودون" و"مثيلات ماري كوري المفقودات"، وهما عبارتين ابتكرتهما بالتعاون مع الباحثين أليكس بل، وراج شيتي، ونيفيانا بتكوفا، وجون فان رينين. فالنساء، على وجه الخصوص، أقل تمثيلا بدرجة كبيرة بين المبتكرين في كل مكان. وهذا ليس بالأمر الهين. فالمخرجات العلمية للأجيال المستقبلية في أنحاء العالم يمكن أن تزداد بنسبة تصل إلى 42% إذا كان الشباب الموهوبون في كل مكان يتمتعون بفرص متكافئة لتطوير إمكاناتهم الكامنة، وفقا لما توضحه دراسة Ruchir Agarwal, Ina Ganguli, Patrick Gaule, and Geoff Smith (2023).
ومن ثم، فإن تحقيق الديمقراطية في النفاذ إلى مسارات العمل في مجال الابتكار حول العالم هو أحد العناصر الرئيسية لزيادة النمو طويل الأجل وتقليص أوجه عدم المساواة. ومن خلال حشد مجمع ضخم من المواهب غير المستغلة سيكون بوسعنا تحقيق معدلات النمو الأعلى اللازمة لمعالجة التحديات الحاسمة كالتحول الأخضر، واستدامة القدرة على تحمل الدين العام، والحد من الفقر، وتقليص عدم المساواة بين الجنسين وبين الأجيال. ويمكن تحقيق ديمقراطية الابتكار بتطبيق سياسات بسيطة موجهة للمستحقين، وتكون انعكاساتها على الاقتصاد الكلي هائلة.
خلفيات الوالدين
نشرت أنا وزملائي البحثيون دراسة منذ ست سنوات حول من يمكن أن يصبح مخترعا في الولايات المتحدة. وباستخدام بيانات الفترة من 1996-2012 المستمدة من المكتب الأمريكي لبراءات الاختراع والعلامات التجارية، أوضحنا أن هناك ارتباط متبادل بين دخل الوالدين واحتمالية حصول المرء على براءة اختراع (انظر الرسم البياني 1). ومن بين الأشخاص الذين تقل مكاسب دخل والديهم عن المئين الثمانين كان هناك أقل من أربعة مخترعين من بين كل ألف شخص. أما الأفراد الذين يندرج والداهم ضمن أعلى 20% من أصحاب الدخل، فهناك قرابة ثمانية أشخاص حصلوا على براءات اختراع من بين كل ألف شخص.
وقد أدخلنا بعض التنقيحات على التحليل لمقارنة فرص النفاذ إلى مسارات العمل في مجال الابتكار بالنسبة للأشخاص الذين سجلوا درجات مماثلة في اختبارات مادة الرياضيات في الصف الثالث الابتدائي. وأظهرت البيانات أن الأطفال الذين سجلوا درجات منخفضة في تلك الاختبارات في تلك المرحلة العمرية كانوا أقل حظا عموما في أن يصبحوا مخترعين في نهاية الأمر، بغض النظر عن مكاسب الدخل لوالديهم. ولكن من بين الأطفال الذين سجلوا درجات في المئين التسعين أو أعلى، وجدنا أن من كان والداهم ضمن أعلى 20% من أصحاب الدخل شبوا ليكون من بينهم أكثر من ضعف أصحاب براءات الاختراع مقارنة بالأطفال من الأسر الأقل دخلا.
ويمتد أفق مساهمات الوالدين إلى ما هو أبعد من الدعم المالي لتعليم أطفالهم وتوفير مسارات العمل في مجال الابتكار، بحيث يشمل كذلك المساهمة في نقل المعرفة والتطلعات. ففي فنلندا، نجد أن التعليم مجاني بالكامل ومتاح للجميع، من مرحلة الحضانة إلى مرحلة الدراسات العليا لنيل درجة الدكتوراه. ومع ذلك فقد وجد فريق الباحثين بقيادة فيليب أغيون من كلية لندن للاقتصاد في عام 2017 أن هناك أوجه تفاوت كبيرة في النفاذ إلى مسارات العمل في مجال الابتكار تماثل في حجمها أوجه التفاوت المشاهدة في الولايات المتحدة. وهذا يعني أن العوامل الاجتماعية وليست القيود المالية هي ما تقوم بدور حاسم في تشكيل تلك التفاوتات. فالنماذج التي يحتذى بها في الطفولة تخلق التطلعات التي تؤثر على اختيارات مسار العمل.
الانعكاسات على الاقتصاد الكلي
ثمة تكاليف اقتصادية كلية باهظة للمواهب غير المستغلة. ويوضح نموذج جديد أنشأته بالتعاون مع إيلياس إينيو وجوش فينغ (2023) أن التكافؤ بين الجنسين في النفاذ إلى مسارات العمل في مجال الابتكار يمكن أن يعزز نمو الإنتاجية بنسبة قدرها 70%. وبالنسبة للبلدان مرتفعة الدخل مثل الولايات المتحدة، فإن هذا يعني زيادة معدل نمو الإنتاجية من 2% إلى 3,4% سنويا (الرسم البياني 2). ومثل هذا المكسب الكبير يمكن أن تكون له انعكاسات عميقة على الرخاء المجتمعي والإيرادات الضريبية على حد سواء. ويوضح النموذج كذلك أن التحاق الأطفال ذوي القدرات الأعلى بمسارات العمل في مجال الابتكار سيكون له الأثر الأكبر في المكاسب الاقتصادية المتحققة.
وتحمل الخلفية الأسرية نفس أهمية التكافؤ بين الجنسين في تشكيل إمكانية النفاذ إلى مسارات العمل في مجال الابتكار. ومن شأن توفير الفرص المتساوية للأفراد في شريحة أعلى 1% من السكان في توزيع المهارات، بغض النظر عن خلفياتهم الأسرية، أن يزيد معدلات نمو إجمالي الناتج المحلي بنسبة قدرها 55%. ومن ثم، فإن إدراك الأهمية الاقتصادية الكلية للسياسات التي تهدف إلى سد هذه الفجوات، سواء كانت بين الجنسين أو حسب الخلفية الاجتماعية-الاقتصادية، أمر بالغ الأهمية.
اتجاه الابتكار
من شأن تنويع مجمع المخترعين أن يوفر ميزة أخرى مهمة، فإلى جانب تسريع وتيرة الابتكار، يمكنه أن يؤثر على اتجاه الابتكار. وتشير الأمثلة المستمدة من التاريخ إلى أن تجارب المبتكرين الشخصية تشكل في معظم الأحيان رؤيتهم في مجال ريادة الأعمال، التي تؤثر بدورها على الفئات الاجتماعية-الديمغرافية المستفيدة من هذه الابتكارات. ومن حيث الجوهر، نجد أن المبتكرين كثيرا ما ينصب تركيزهم على حل المشكلات التي سبق أن واجهوها بأنفسهم.
فعلى سبيل المثال، قامت نجمة المجتمع الأمريكية الثرية جوزفين كوكران في أواخر القرن التاسع عشر باختراع "آلة غسيل الأطباق" لتوفير الحماية لأطباق الصيني الفاخرة التي تملكها، والتي كثيرا ما كانت تتعرض للتلف على يد خادمتها أثناء غسلها يدويا. وفي وقت أقرب، اعتمد كريستوفر غراي على خبرته الشخصية بوصفه ابنا لأم عزباء تعاني من ظروف الحياة الصعبة وقام بإنشاء تطبيق المنح الدراسية "سكولي". وقد أنشأ غراي هذا التطبيق لمساعدة الطلاب في البحث عن فرص للحصول على منحة دراسية من القطاع الخاص على أساس معايير معينة مثل تخصصهم الدراسي أو الولاية التي يقيمون فيها. وفي الوقت نفسه، نجد أن رائدات الأعمال اللائي يكرسن جهودهن لمعالجة الاحتياجات التي لا تحظى بالاهتمام الكافي يحققن تقدما كبيرا في مجال "التكنولوجيا النسائية"، أو التكنولوجيات الصحية الجديدة التي تفيد النساء.
وتبين النتائج البحثية أن المبتكرين يخلقون غالبا منتجات معدة خصيصا لأشخاص لهم نفس ظروفهم، من الابتكارات الطبية إلى تطبيقات الهاتف المحمول والسلع المعبأة للاستهلاك. وعلى سبيل المثال، نجد أن المبتكرين من العائلات ذات الدخل المرتفع يطورون على الأرجح منتجات تستهدف المستهلكين ذوي الدخل المرتفع. ويميلون غالبا إلى تجنب الصناعات التي تلبي الاحتياجات الأساسية، كالأغذية، ويشاركون على الأرجح في القطاعات التي تستهدف أسواق المنتجات الفاخرة، كالتمويل. ويسري نمط مماثل على المبتكرين حسب النوع الاجتماعي والفئة العمرية. وتساهم هذه الميول في خلق تفاوتات في القوة الشرائية عبر فئات المستهلكين المختلفة.
وصفات السياسات
تشير الأدلة المتزايدة إلى أن تشجيع الابتكار لا يقتصر على ضرورة اعتماد سياسات رأس المال البشري العامة فحسب، بل إنه يتطلب أيضا اتخاذ مبادرات موجهة تسمح بالانكشاف على خبرات معينة في العمل في مجال الابتكار. وتوضح دراسة Bell and others (2019) أن التواجد في سن الطفولة بالقرب من المخترعين يزيد من احتمال أن يصبح الشخص مخترعا. وتبرز التجارب المضبوطة المعشاة في الآونة الأخيرة أهمية برامج الإرشاد وآثار النماذج المحتذى بها على اختيارات مسار العمل. وتخلص دراسة Breda and others (2023) إلى أن الانكشاف حتى وإن كان محدودا على النماذج النسائية التي يحتذى بها في المجالات العلمية يؤثر بدرجة كبيرة على اختيارات الفتيات في مرحلة التعليم الثانوي لتخصصاتهن في الدراسة الجامعية. وتوضح الدراسة البحثية أن هناك أثرا قويا بصفة خاصة على الفتيات المجتهدات في الصف النهائي من التعليم الثانوي، حيث يكون من الأرجح التحاقهن بالبرامج الانتقائية الجامعية التي يهيمن عليها الذكور لتعليم العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات. ويخلص الباحثان إلى أن الفجوة بين الجنسين في الالتحاق ببرامج العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات تضيق بدرجة كبيرة بعد مثل هذا التدخل. وهناك سياسات أخرى، مثل برامج التمويل المخصصة، يمكنها أن تساعد أيضا في سد فجوة المواهب في الابتكار بين الجنسين وحسب الخلفية الاجتماعية-الاقتصادية.
واعتماد نظام تعليمي أكثر احتواء للجميع يمكنه كذلك تسريع عجلة نشر المعرفة. ورغم أن الهدف من فكرة "مثيلات ماري كوري المفقودات" يركز على التعرف على المواهب غير المستغلة لتطوير التكنولوجيات الجديدة، فإن تعزيز نشر التكنولوجيات الموجودة بالفعل لا يقل أهمية في سبيل نمو الإنتاجية. فالقوة العاملة الحاصلة على مستويات أفضل من التعليم تكون أقدر على اعتماد التكنولوجيات الجديدة في عملها، وهو ما يعني أن تقليص فجوة التحصيل الدراسي بين الفئات الاجتماعية-الديمغرافية أو المناطق المحلية يمكن أن يسهل نشر الابتكار وفي الوقت نفسه الحد من أوجه عدم المساواة. وتوضح دراسة من إعداد إيليو نيمييه-ديفيد من جامعة كورنيل في عام 2023 أن إنشاء كليات جامعية جديدة في فرنسا خلال التسعينات من القرن الماضي أدى إلى توسيع فرص الحصول على التعليم وكانت نتيجته ازدياد تكوين مؤسسات الأعمال الجديدة.
وبالإضافة إلى ما سبق، فمن الموضوعات بالغة الأهمية تحقيق الديمقراطية في النفاذ إلى مسارات العمل الابتكاري في البلدان منخفضة الدخل. وتشير دراسة Agarwal and others (2023) إلى إمكانية تحقيق ذلك من خلال خفض الحواجز أمام الهجرة والتوسع في توفير المنح الدراسية للطلاب الأجانب المتفوقين من الاقتصادات النامية.
وينبغي ألا يأتي السعي للابتكار والنمو على حساب الحراك الاجتماعي أو المساواة بين الجنسين. فمن خلال إطلاق العنان للمواهب غير المستغلة وضمان التكافؤ في النفاذ إلى مسارات العمل في مجال الابتكار سوف نتمكن من تعجيل التقدم التكنولوجي والتطور الاجتماعي على السواء. ولا تقتصر أهمية تشجيع إقامة مجمع متنوع من المبتكرين على تحقيق النمو الاقتصادي فحسب، بل تمتد كذلك إلى تحقيق مستقبل أكثر احتواء ورخاء للجميع. فديمقراطية الابتكار تحمل من إمكانات تحقيق الرخاء ما تحمله الثورات التكنولوجية مثل الذكاء الاصطناعي التوليدي، وبمزايا أكبر كثيرا لصالح احتواء كل الفئات وتحقيق المساواة. وهذه هي حدود الابتكار الخفية.
الآراء الواردة في هذه المقالات وغيرها من المواد المنشورة تعبر عن وجهة نظر مؤلفيها، ولا تعكس بالضرورة سياسة صندوق النقد الدولي.
المراجع:
Agarwal, R., I. Ganguli, P. Gaule, and G. Smith. 2023. “Why US Immigration Matters for the Global Advancement of Science.” Research Policy 52 (1): 104659
Bell, A., R. Chetty, X. Jaravel, N. Petkova, and J. Van Reenen. 2019. “Who Becomes an Inventor in America? The Importance of Exposure to Innovation.” Quarterly Journal of Economics 134 (2): 647–713
Breda, T., J. Grenet, M. Monnet, and D. Van Effenterre. 2023. “How Effective Are Female Role Models in Steering Girls towards STEM? Evidence from French High Schools.” Economic Journal 133 (653): 1773–809
Einio, E., J. Feng, and X. Jaravel. 2023. “Social Push and the Direction of Innovation.” VATT Working Paper 160, VATT Institute for Economic Re-search, Helsinki