5 min (1403 words) Read

ينبغي أن تعمل السياسة الصناعية الحديثة على تشكيل الأسواق وليس مجرد إصلاح إخفاقاتها

 

الأزمة المناخية آخذة في التفاقم؛ إذ يُنتظر أن ترتفع درجات الحرارة بمقدار 1,5 درجة مئوية على الأقل خلال القرن الحالي عن مستويات ما قبل الثورة الصناعية. والاحترار العالمي في الوقت الراهن يلحق دمارا هائلا بالكوكب والبشر والاقتصادات- معظمه لا يزول. وما زلنا أبعد ما نكون عن بلوغ تدفقات تمويل العمل المناخي المستهدفة والتي تبلغ 5,4 تريليون دولار على الأقل سنويا بحلول عام 2030 اللازمة للحيلولة دون حدوث أسوأ آثار ازدياد سخونة الكوكب.

ومن الجدير إثبات ما هو بديهي: فالأزمة ليست وليدة الصدفة، لكنها نتيجة مباشرة للكيفية التي صممنا بها اقتصاداتنا - ولا سيما المؤسسات العامة والخاصة والعلاقات فيما بينها. وهذا يعني أننا نملك قوة التأثير، أي قوة إعادة تصميمها ووضع مصلحة الكوكب والبشر على رأس الأولويات. ولكي نتمكن من تحقيق ذلك، يجب أن نمضي قدما إلى ما هو أبعد من إصلاح الأسواق وما يرتبط بذلك من مفهوم "الفجوات التمويلية" للوصول إلى تحديد شكل الأسواق والاهتمام بجودة التمويل وليس مجرد مقداره. ويجب أن نرسم السياسات التي تجعل الاقتصادات تميل نحو تحقيق الأهداف الطموحة ذات التوجهات القوية مع ترك السؤال عن كيفية تحقيق هذه الأهداف مفتوحا للنقاش. ولن يكون مجرد "إرساء قواعد المنافسة العادلة" وتحويل الأموال كافيين لتحقيق ذلك.

وهذا يتطلب فكرا اقتصاديا جديدا واعتماد منهج حديث في السياسة الصناعية. وينبغي أن تدرك الحكومات أن النمو الاقتصادي غير جدير بالسعي إلا إذا كان مستداما واحتوائيا لكل شرائح المجتمع. فالنمو له معدل، ولكن له اتجاه أيضا. وحتى نتمكن من التعامل مع تغير المناخ، يجب أن نهتم بكليهما. فبدون النمو، لن تكون هناك وظائف؛ وبدون اتجاه محدد للنمو، فإن الوظائف قد تساهم في الاحترار العالمي وتستغل العمالة. ودور الحكومات، بوصفها راعية الصالح العام، أن تعمل على توجيه النمو وتشكيل الأسواق للوصول إلى مستقبل صفري الانبعاثات. 

فماذا يعني ذلك؟ يعني إعادة تصميم السياسات والعقود؛ ويعني قيام شراكات جديدة بين القطاعين العام والخاص؛ ويعني إعداد الأدوات وإقامة المؤسسات التي توافق الغرض؛ ويعني كذلك الاستثمار في الخدمات العامة.  

النمو الاقتصادي غير جدير بالسعي إلا إذا كان مستداما واحتوائيا لكل شرائح المجتمع.
منهج موجه نحو المهمة

في الماضي، كانت الحكومات التي تسعى لتطبيق السياسات الصناعية تحاول إنشاء شركات وطنية قائدة عن طريق انتقاء العناصر الناجحة من بين الشركات والتكنولوجيات، وكانت النتائج في أغلب الأحيان تأتي مختلطة. وينبغي أن تكون الاستراتيجية الصناعية الحديثة مختلفة. فبدلا من انتقاء العناصر الناجحة، ينبغي أن "تنتقي العناصر الراغبة" عن طريق تحديد مهام واضحة—مثل حل أزمة المناخ أو تعزيز درجة التأهب للجوائح - ثم تشكيل الاقتصادات والأسواق لإنجازها (دراسة Mazzucato 2021).

ولا بد لكل القطاعات، وليس لقلة مختارة فقط، من التحول والابتكار. ومثلما لم تقتصر مهمة وكالة "ناسا" للوصول إلى القمر في ستينات القرن الماضي على صناعة الملاحة الجوية والفضاء، بل شملت الاستثمار أيضا في صناعات مثل التغذية والمواد، فإن المهام المناخية اليوم تقتضي مشاركة كل القطاعات في الابتكار. وهذا يعني تغيير كيفية تناولنا الطعام، وكيفية تنقلنا، وكيفية تشييدنا للمباني. ومن شأن اعتماد استراتيجية صناعية موجهة نحو المهمة أن يحفز هذا التحول. 

وتُخطئ بعض القيادات التي اعتمدت منهجا موجها نحو المهمة في السياسة الصناعية عند تعريف النمو في حد ذاته بأنه المهمة. بل ينبغي فهم الأداء الاقتصادي الكلي الأقوى، مقيسا بإجمالي الناتج المحلي، أو الإنتاجية، أو خلق فرص العمل باعتباره نتيجة كل المهام المصممة بدقة.

ولأن الحكومات تستطيع حفز النمو وتوجيه دفته باعتمادها منهجا موجها نحو المهمة، فمن الممكن أن يكون للاستثمار العام المبدئي تأثير هائل على إجمالي الناتج المحلي من خلال منافع انتقال التداعيات وآثار المضاعِفات الاقتصادية. ويمكنه حفز الابتكار و"جذب" الاستثمار الخاص عبر قطاعات متعددة— وهو ما يتسم بأهمية خاصة في البلدان التي لا تستثمر شركاتها إلا القليل في البحث والتطوير (دراسة Mazzucato 2018). وبذلك يمكن إطلاق شرارة حلول جديدة لمشكلاتنا الأكثر إلحاحا، مثل الوصول إلى صافي الانبعاثات الصفري. ولكن انتقال تلك الآثار المشجعة للنمو لن يتحقق إلا بمراعاة المعقولية في تصميم التعاون بين القطاعين العام والخاص، من أجل إعطاء الأولوية للصالح العام.

وفي الوقت الراهن، نجد أن جهود الحكومات والشركات على السواء تبوء بالفشل في تحديد المحاور الضرورية لمكافحة الاحترار العالمي. فقد أنفق العالم 7 تريليونات دولار في دعم الوقود الأحفوري في عام 2022. ومن المتوقع أن تستثمر أكبر 20 شركة من شركات الوقود الأحفوري 932 مليار دولار في تطوير حقول نفط وغاز جديدة بنهاية عام 2030.

وما لم تغير الحكومات من منهجها، فمن الواضح أن شركات كثيرة سوف تستمر في تقديم مصلحتها في تحقيق الأرباح الاستثنائية على الاستثمار في الأنشطة الاقتصادية المنتجة أو تحويل ممارساتها بحيث تتسق مع الأهداف المناخية. وسوف تواصل مساهمتها في اتساع الفجوة بين الأكثر ثراء والأكثر فقرا. فقد قامت الشركات المدرجة في مؤشر ستاندرد آند بور 500 بتحويل مبلغ قدره 795,2 مليار دولار إلى حملة الأسهم في العام الماضي من خلال عمليات إعادة شراء الأسهم - وأكثر من نصف هذا المبلغ تقريبا كان من أكبر 20 شركة. وقامت خمس شركات من أكبر شركات الطاقة في العالم المدرجة في البورصة بتحويل مبلغ قدره 104 مليارات دولار من خلال عمليات إعادة الشراء والأرباح الموزعة في عام 2023. وفي الوقت نفسه، انخفض نصيب العمالة من الدخل الكلي بنسبة قدرها 6 نقاط مئوية منذ عام 1980.

شروط العقود

الشروط والأحكام التي تنص عليها العقود الحكومية في إعداد هيكل التعاون بين القطاعين العام والخاص هي أداة مؤثرة في إحداث التغيير. وينبغي أن تشترط الحكومات على الشركات توفيق سلوكياتها مع أهداف المهام حتى يمكنها الاستفادة من المال العام وغيره من المزايا (مثل المنح، والقروض، والاستثمارات في حصص الملكية، والامتيازات الضريبية، وصفقات التوريد، والأحكام التنظيمية، وحقوق الملكية الفكرية). وتمثل عودة السياسة الصناعية للظهور - مع تدفق مليارات الدولارات إلى القطاع الخاص - فرصة مواتية لصياغة عقد اجتماعي جديد بين القطاعين العام والخاص، وبين رأس المال والعمالة.

 وينبغي التروي في تصميم ومعايرة هذه الشروط لتعظيم القيمة العامة، ولكن دون المبالغة في التفصيل حتى لا تتسبب في القضاء على الابتكار (دراسة Mazzucato and Rodrik 2023). فمن الممكن مطالبة المطورين، على سبيل المثال، باتباع شروط البناء الطموحة لتحقيق صافي الانبعاثات الصفري. ولكن مع ترك الاختيار لهم في تحديد كيفية القيام بذلك - عن طريق تصميم المنازل "السلبي" الموفر للطاقة (Passive House)، أو تشييد المباني المرتفعة باستخدام الأخشاب، أو الإسكان المعياري، أو الحصول على الخرسانة من مصادر منخفضة الكربون، أو غيرها من المناهج.

وقد تأخذ الشرطية أشكالا عديدة. فمن الممكن أن توجه مسار الشركات نحو أهداف مرغوبة اجتماعيا، مثل صافي الانبعاثات الصفرية، أو سهولة الحصول على المنتجات والخدمات الناتجة بأسعار في المتناول، أو المشاركة في الأرباح، أو إعادة استثمار الأرباح في أنشطة منتجة مثل البحث والتطوير بدلا من الأنشطة غير المنتجة مثل إعادة شراء الأسهم.

ورغم أن الشرطية ليست مستغلة بالكامل، فإنها ليست بالفكرة الجديدة. فقد كان الإنقاذ المالي المقدم من الحكومة الفرنسية أثناء جائحة كوفيد-2019 للخطوط الجوية الفرنسية مشروطا بقيام الشركة بتقليل نسبة الانبعاثات عن كل راكب وخفض عدد الرحلات الداخلية. ويقدم بنك التنمية الوطني الألماني "KfW" القروض بفوائد مخفضة من خلال برنامجه لإعادة التأهيل من أجل كفاءة استخدام الطاقة فقط للشركات التي توافق على خفض انبعاثات الكربون. ويرسي قواعد المساءلة والحوافز بتخفيف أعباء الديون في حدود تصل إلى 25% بالنسبة للمباني التي تستوفي معايير الطاقة اللازمة - وكلما ارتفعت درجة الكفاءة في استخدام الطاقة زاد تخفيف أعباء الديون.

وفي الولايات المتحدة، لا تحصل الشركات على التمويل بموجب "قانون دعم العلوم وخلق حوافز مساعدة لإنتاج أشباه الموصلات" (قانون الرقائق والعلوم)، وهو أحد الروافد الرئيسية في استراتيجية إدارة الرئيس بايدن الصناعية، إلا إذا التزمت بخطط تطوير العمل المناخي وتنمية القوى العاملة. وينبغي كذلك أن توفر خدمات متاحة بسهولة لرعاية الطفل، ودفع الأجور السائدة لفئات معينة من العمال، والاستثمار في المجتمعات بالتشاور مع الأطراف المعنية، وتقاسم جزء من أرباحها التي تتجاوز مستوى حديا معينا، في سبيل حصولها على تمويل قدره 150 مليون دولار أو أكثر. وتُستبعد عمليات إعادة شراء الأسهم من التمويل بموجب قانون "الرقائق"، وتحبذ التشريعات عدم إجرائها لمدة خمس سنوات.

وهذه الشروط مهمة، وهي على النقيض من نقد بعض المتشككين الذين يشبهونها بمنهج "استهداف كل شيء" لم تمنع مؤسسات الأعمال* من تقديم الطلبات. وربما كان لهذا الانتقاد أساس من الصحة إذا كانت هناك شروط أكثر من اللازم يتعذر استيفاؤها. ولكن التصميم الذكي هو سمة أي منتج جيد - ولو كان "استهداف كل شيء" سيحقق نتيجة طيبة ولن يكلف أكثر، فهو إذن السبيل الصحيح.

ولكن النقد الذي له ما يبرره بدرجة أكبر هو أن الشرطية في "قانون الرقائق" قد لا تحقق النتائج المرجوة بالقدر الكافي* - فهي تتيح درجة كبيرة من المرونة مع التفاوض بشأن التزامات دقيقة على أساس كل حالة على حدة خلف الأبواب المغلقة. وقد حثت اتحادات العمال على أن يكون التمويل مشروطا بمعايير العمل الأعلى.

الموارد العامة الاستراتيجية

تمثل المشتريات العامة* الاستراتيجية أداة مؤثرة أخرى. ويبلغ إجمالي ميزانيات المشتريات العامة العالمي حوالي 13 تريليون دولار سنويا، ويمثل 20-40% من الإنفاق العام الوطني في بلدان منظمة التعاون والتنمية في الميدان الاقتصادي. ومن شأن المشتريات العامة أن تخلق فرصا سوقية جديدة وتحفز الابتكار والاستثمار تماشيا مع أولويات الحكومة. غير أن المشتريات العامة تركز في المعتاد على الكفاءة، والإنصاف، وخفض التكلفة، وإدارة المخاطر، ومنع أعمال الفساد. وهذا يفسر السبب في وضع وظائف المشتريات العامة غالبا تحت إشراف الفرق القانونية والمالية وليس فرق استراتيجية السياسات.

وتؤكد نماذج المشتريات العامة الجديدة على النتائج، أو الابتكار، أو القيمة الاجتماعية، أو الإنتاج المحلي. فالبرازيل، على سبيل المثال، تعيد حاليا تصميم المشتريات العامة* لدعم أهداف الاستراتيجية الصناعية. وتشجع "مبادرة الشراء النظيف" (Buy Clean) الأمريكية استخدام مواد البناء الأمريكية الصنع منخفضة الكربون في المشروعات الفيدرالية.

وإضافة إلى السياسات على جانب العرض كالمشتريات العامة، فإن الاستراتيجيات الصناعية الموجهة نحو المهمة تتطلب تمويلا طويل الأجل وصبورا موجها نحو تحقيق غايات محددة (دراسة Mazzucato 2023). وتتوقف تعبئة وهيكلة هذا النوع من التمويل على مدى رغبة الدولة في الإقبال على المخاطر. وينبغي أن تكون المؤسسات العامة المالية، مثل بنوك التنمية، هي مقرض الملاذ الأول وليس الأخير. فهي تمتلك أصولا هائلة*، حيث تبلغ قيمة الأصول المدارة لدى بنوك التنمية الوطنية 20,2 تريليون دولار، بالإضافة إلى أصول بنوك التنمية متعددة الأطراف بقيمة قدرها 2,2 تريليون دولار. وتبلغ في المجمل حوالي 10-12% من حجم التمويل العالمي. ويجب أن تكون مستعدة لتقديم التمويل لمواجهة التقلبات الدورية، وتمويل مشروعات تطوير رأس المال، وأن تعمل كمستثمر في رأس المال المخاطر، بحيث تحفز الاستثمارات الرامية إلى معالجة تحديات معينة. 

ومن شأن المنهج الموجه نحو المهمة أن يعزز الروابط بين بنوك التنمية الوطنية وبنوك التنمية متعددة الأطراف، مما يؤثر على شروطها الإقراضية بحيث تقتضي من الشركات الخاصة إجراء التحول في إنتاجها. فالقروض المقدمة من بنك التنمية الوطني الألماني (KfW) إلى قطاع صناعة الحديد والصلب الوطني كانت مشروطة بقيام الشركات بخفض محتوى المواد الخام في إنتاجها. ولهذا السبب أصبحت ألمانيا اليوم تنتج الصلب الأخضر. فإذا اتحدت كل البنوك العامة لتشجيع الاستدامة، سيكون بوسعنا التوصل إلى مضاعِف حقيقي لأهداف التنمية المستدامة، وفقا لما تدعو له منظمة الأمم المتحدة.

وبوجه أعم، فإن الاستراتيجية الصناعية الموجهة نحو المهمة سوف تعاني في سبيل النجاح ما لم تكن هناك منظومة ابتكار وطنية* مستقرة ومترابطة. فينبغي أن تحرص المؤسسات العامة على تمويل الابتكار وصياغته في كل مرحلة، من البحث إلى التسويق إلى تكثيف الإنتاج. وبإمكان نظم الابتكار الديناميكية - التي تتركز حول أدوات ومؤسسات التمويل القائم على الناتج - أن تنشر المعرفة والابتكار في كافة قطاعات الاقتصاد. وينبغي أن تتسق أدوات ومؤسسات السياسات العامة مع المهام (المكوِّن الرأسي في الاستراتيجية الصناعية الجديدة بدلا من القطاعات في الاستراتيجية القديمة) والاستثمار في المنظومة الأوسع نطاقا (المكوِّن الأفقي).

ديناميكية القطاع العام

التحول إلى الاستراتيجية الصناعية الجديدة يتطلب استثمارا موازيا في إمكانات الحكومة (دراسة Kattel and Mazzucato 2018). فالتصورات محدودة الأفق بشأن دور الحكومة، وتخفيضات التوظيف في القطاع العام، وفرط الاعتماد على الشركات الاستشارية الكبرى* تركت حكومات عديدة غير مهيأة بالقدر الكافي لتطبيق السياسة الصناعية الموجهة نحو المهمة (دراسة Mazzucato and Collington 2023). فالاستثمار في الفرق المسؤولة عن تعميم السياسة الصناعية، على كافة مستويات الحكومة - والاهتمام بتصميم المؤسسات التي تضم تلك الفرق والأدوات المتاحة لها - هو عنصر أساسي لتحقيق ما يبشر به هذا المنهج من التحول على نحو أفضل.

وتتطلب السياسة الصناعية وجود قطاع عام يتسم بالكفاءة، والثقة، والقدرة على ريادة الأعمال*، والديناميكية* — أي قطاع عام مهيأ لخوض المخاطر، والدخول في تجارب جديدة، والتعاون مع القطاع الخاص حول أهداف طموحة لا تزال مطروحة للنقاش بشأن كيفية تحقيقها. ويجب أن يعمل عبر مختلف النطاقات الوزارية* (فالعمل المناخي لا يقتصر على وزارة الطاقة فحسب، مثلما لا تقتصر صحة الإنسان على وزارة الصحة). وهذا يستدعي اعتماد منهج مختلف اختلافا جذريا. 

ويتطلب كذلك تعديلات في مؤسسات الحكومة لتمكين العمل بطرق جديدة. "ومختبرات الابتكار الحكومية (Govlabs)*" مثل مختبر شيلي للابتكار "Laboratorio de Gobierno"، هي أمثلة عن المساحات الآمنة في بعض البلدان التي يختبر فيها موظفو الخدمة المدنية ممارسات خوض المخاطر والتعاون والتعلم - مما يسمح لهم بتجربة مناهج مختلفة لأدوات السياسة، مثل المشتريات العامة الموجهة نحو المهمة، ثم التوسع فيها.

ويمكن للحكومات كذلك تطوير إمكاناتها في قياس الآثار المضاعفة في السياسة الصناعية. فالقياسات الساكنة، مثل تحليلات التكلفة والعائد، والمؤشرات الاقتصادية الكلية مثل إجمالي الناتج المحلي، تعجز عن رصد التأثير الأوسع للاستراتيجيات الصناعية الموجهة نحو المهمة. ومن ثم، فإن إنشاء لوحة متابعة للمؤشرات الاقتصادية والاجتماعية والبيئية هو عامل أكثر فعالية.

ومن المفترض أن تعكس المؤشرات الاجتماعية والبيئية أهداف المهمة وقيمها الجوهرية. أما المؤشرات الاقتصادية، فيجدر أن تتضمن منافع أثر التداعيات والمضاعِفات الاقتصادية*، إلى جانب أدوات القياس المعتادة مثل خلق فرص العمل وتقديم طلبات تسجيل براءات الاختراع. وينبغي اعتبار هذه المؤشرات أدوات للتعلم وقواعد للمساءلة، وليست المهام بحد ذاتها. وتعمل بعض الوزارات الحكومية حاليا، مثل الخزانة البريطانية، على تحديث توجيهات الإنفاق العام لوضع مستهدفات واضحة بين الإدارات.

واستمرار الوضع على ما هو عليه ليس خيارا مطروحا. فالتحديات التي نواجهها - ومنها أزمة المناخ التي تحتل مرتبة عالية – هائلة للغاية. ويجب على البلدان كذلك مقاومة إغراءات الانجراف إلى الحمائية الخضراء بإعطاء الأولوية لتنمية اقتصاداتها للوصول إلى الحياد الكربوني على حساب التعاون العالمي الذي يعطي الأولوية للمساواة والتقدم نحو تحقيق الأهداف المناخية العالمية. وبينما أدى "قانون خفض التضخم" في الولايات المتحدة إلى دفع أوروبا إلى إعطاء الأولوية لخفض انبعاثات الكربون في صناعتها فإنه يستنزف التمويل من الاقتصادات الصاعدة الأشد تضررا من جراء تغير المناخ. وهذا أمر يدعو للقلق. ويزيد من أهمية توخي الدقة في تصميم الاستراتيجيات الصناعية الوطنية ومراعاة انعكاساتها على التنمية والتجارة وسلاسل الإمداد الدولية حتى نتمكن من التصدي لأشد التحديات العالمية التي نواجهها على نحو منسق.

وتتمتع السياسة الصناعية الحديثة بإمكانات كبيرة في وضع البلدان على مسار مختلف، ولكن ذلك لن يتحقق إلا إذا وجهت جهود الاستثمار، والابتكار، والنمو، والإنتاجية حول أهداف العمل المناخي والاندماج الجريئة. ولا بد أن تدفع سباق الاقتصاد الأخضر نحو القمة وليس إلى القاع. 

ماريانا مازوكاتو هي أستاذ علوم اقتصاد الابتكار والقيمة العامة في كلية لندن الجامعية ومؤلفة كتاب Mission Economy: A Moonshot Guide to Changing Capitalism.

الآراء الواردة في هذه المقالات وغيرها من المواد المنشورة تعبر عن وجهة نظر مؤلفيها، ولا تعكس بالضرورة سياسة صندوق النقد الدولي.

المراجع:

Kattel, R., and M. Mazzucato. 2018. “Mission-Oriented Innovation Policy and Dynamic Capabilities in the Public Sector.” Industrial and Corporate Change 27 (5): 787–801.  

Mazzucato, M. 2018. “Mission-Oriented Research and Innovation in the European Union.”  

Mazzucato, M. 2021. Mission Economy: A Moonshot Guide to Changing Capitalism. London: Allen Lane.  

Mazzucato, M. 2023. “Financing the Sustainable Development Goals through Mission-Oriented Development Banks.” UN DESA Policy Brief Special Issue, UN Department of Economic and Social Affairs, New York, NY.  

Mazzucato, M., and R. Collington. 2023. The Big Con: How the Consulting Industry Weakens Our Businesses, Infantilizes Our Governments, and Warps Our Economies. New York, NY: Penguin Press. 

Mazzucato, M., and D. Rodrik. 2023. “Industrial Policy with Conditionalities: A Taxonomy and Sample Cases.” UCL Institute for Innovation and Public Purpose Working Paper IIPP WP 2023-07, London.

Mazzucato, M., S. Doyle, and L. Kuehn von Burgsdorff. 2024. “Mission-Oriented Industrial Strategy: Global Insights.” IIPP Policy Report 2024/09, UCL Institute for Innovation and Public Purpose, London.