5 min (1403 words) Read

مع زيادة متوسط العمر المتوقع، تقول أوليفيا ميتشيل إن هذا الأمر يستلزم تخطيطا ماليا لإبعاد شبح القلق عن سنوات التقاعد الإضافية

 

إن المسارات الوظيفية نادرا ما تمضي في خطوط مستقيمة، ولكن في ظل ما تحدثه التكنولوجيات الجديدة من تحولات في الوظائف بسرعة مذهلة، يمكن أن تُخرج تقلبات هذه المسارات ومنعطفاتها برامج التقاعد عن مسارها الصحيح. ولأنها ابنة اثنين من خبراء الاقتصاد اللذين جابا أصقاع العالم، تعرفت أوليفيا ميتشيل على المبادئ الاقتصادية منذ نعومة أظفارها. ففي الخامسة من عمرها حين كانت تعيش في باكستان، لاحظَت عمال البناء وهم يصطفون في سلسلة بشرية لصب الخرسانة بدلا من استخدام شاحنة خلط الإسمنت. وردا على سؤالها عن السبب، قال والدها إن "العمالة أرخص من رأس المال". وقد درست ميتشيل علم الاقتصاد في جامعتي هارفارد وويسكونسن-ماديسون، وانصب تركيزها على علم الاقتصاد العام والتنمية. ونشرت مئات الدراسات البحثية والكتب عن هذا الموضوع والتي حظيت بتقدير كبير، وتُعتبر أحد مؤسِّسي البحوث الأكاديمية الحديثة في مجال التقاعد.

وفي حوار أجرته معها رودا ميتكاف، المساهمة في مجلة التمويل والتنمية، تحدثت ميتشيل، أستاذ علم اقتصاديات الأعمال والمدير التنفيذي لمجلس بحوث التقاعد في كلية وارتون بجامعة بنسلفانيا، عن كيف أن دعم التمتع بصحة جيدة في مرحلة الشيخوخة وتحسين مستوى المعرفة المالية سيساعدان المجتمع على جني ثمار التمتع بعمر أطول.

التمويل والتنمية: ما وضع الأشخاص الذين هم في طريقهم إلى التقاعد اليوم مقارنة بالأجيال السابقة؟

ميتشيل: في الولايات المتحدة منذ ثلاثين أو أربعين عاما مضت، عاش جيل أبويَّ في ظل اقتصاد قوي. وقد حصلوا على ما اعتقدوا أنه نظام خدمات طبية وضمان اجتماعي موثوق به للمتقاعدين، وحالف الحظ كثيرا منهم عندما حدثت زيادة كبيرة في أسعار المساكن. لذلك، عندما بلغوا سن التقاعد، كانوا في وضع جيد نسبيا.

أما اليوم، فالمتقاعدون ليسوا بالضرورة في هذه الحالة الرائعة. ونحن نعرف أن الولايات المتحدة وكثيرا من البلدان في جميع أنحاء العالم تشهد تراجعا في معدلات الخصوبة وزيادة في طول العمر. ويعني هذا الأمر زيادة أكثر سرعة في أعداد السكان المسنين لدينا. والضمان الاجتماعي، الذي يمثل الركيزة الأولى لتأمين التقاعد في الولايات المتحدة، سيتضاءل في غضون عشر سنوات. ومن ثم، فإن الواقع يتمثل في أن طول العمر يرافقه عائد ديمغرافي "فضي". وسوف نعيش لمدة أطول، وكثير منا سوف يعيشون بصحة أفضل، بيد أن الأسر والمجتمع سيتعين عليهما الاعتناء بعدد أكبر من الأشخاص المسنين الذين يعتريهم الضعف.

ومن المحتمل أيضا أن يشهد النمو الاقتصادي في جميع أنحاء العالم تباطؤا مع بدء كبار السن سحب ما لديهم من أصول. وسيتحول ميزان القوى العالمي من الاقتصادات المتقدمة الأكثر ثراء حيث الأشخاص الأكبر سنا نحو العالم الصاعد. وهذه تغيرات ثورية ليس لنا سابق عهد بها.

التمويل والتنمية: ما الذي تحمله توقعات أن يعيش الناس فترة أطول من معنى للإنتاجية؟

ميتشيل: إن العالم سوف يستفيد من مكاسب طول العمر إذا صاحبت الحياة الأطول تحسينات في الصحة. وعندما يتمتع الناس بصحة جيدة لمدة أطول ويواصلون العمل في مراحل عمرية متقدمة، يعطي ذلك دفعة للإنتاجية والنمو الاقتصادي ويحقق ثروة إضافية في شكل ملايين أخرى من ساعات العمل التي ينجزها أفراد منتجون أصحاء.

التمويل والتنمية: لقد طرأ أيضا تغيير على طريقة عملنا في السنوات الأخيرة. فكيف أثر ذلك الأمر على التقاعد؟

ميتشيل: لقد حدث عدد هائل من التغيرات في أماكن العمل، ليس بسبب جائحة كوفيد-19 وظهور العمل من المنزل فحسب. وكان من المعتاد أن تضطلع الحكومة بدور أكبر في تصميم أنظمة التقاعد. وكان من الممكن أيضا أن ينخرط أصحاب العمل على نحو أكبر عندما كانوا يعرضون أنظمة تقاعد ذات مزايا محددة. إلا أن هذا الأمر قد تغير، ليس في الولايات المتحدة فحسب، وإنما في جميع أنحاء العالم. وفي حين شهدت القوة العاملة تغيرا، وأصبح الناس ينتقلون من مكان عمل إلى آخر، فإن فكرة وجوب الاستمرار في العمل في شركة واحدة مدى الحياة لم تعد تلبي احتياجاتنا.

التمويل والتنمية: من ثم، يصبح الناس أكثر اعتمادا على أنفسهم عندما يتعلق الأمر بالتخطيط للتقاعد، وقد انصب جزء من بحثك على دراسة إلى أي مدى يُحسن الناس التصرف في هذا الصدد. فما الذي خلصت إليه؟

ميتشيل: ما زلت أعمل مع مجموعة من الباحثين على مشروع يُعرف باسم "دراسة حول الصحة والتقاعد"، والذي أُطلق في عام 1992. وبدأنا إجراء دراسات مسحية شملت أشخاصا في سن الخمسين وأكثر، ومتابعتهم كل عامين إلى أن توافيهم المنية. وبإذن منهم، دمجنا بين سجلات الضمان الاجتماعي، وسجلات المزايا، والسجلات الطبية في قاعدة بيانات بالغة الثراء. وما تعلمناه من هذه الدراسات هو أن عددا كبيرا من الأشخاص الأكبر سنا لم يخططوا للتقاعد على الإطلاق، ولم يدخروا قط لتلك المرحلة، ولم يكونوا على دراية جيدة بالمدة التي قد يحيونها - ليس من حيث متوسط أعمارهم المتوقع فحسب، بل أيضا مخاطر طول العمر التي واجهوها، أي فرص أن يظلوا على قيد الحياة إلى الثمانين أو التسعين أو المائة من العمر (أو حتى أكثر من ذلك).

والحقيقة أن الأشخاص الذين لا يفهمون المخاطر بعيدة الاحتمال التي ينطوي عليها العيش لمدة طويلة للغاية من المحتمل ألا يدخروا ما يكفي من المال، وهم يميلون إلى التقاعد في وقت مبكر جدا. ومن الأمور التي ما زلت أعمل عليها محاولة إرشاد الناس وتثقيفهم بشأن تلك المخاطر.

التمويل والتنمية: هل ينبغي للحكومة أن تحاول تحفيز الناس على مزيد من الادخار؟

ميتشيل: إن مجتمعات كثيرة تفعل ذلك. في الولايات المتحدة، لدينا ما يُعرف باسم المدخرات المؤهلة لإعفاءات ضريبية، والتي تتيح للعاملين إيداع أموال في حسابات التقاعد الممولة قبل خصم الضرائب منها. ولدى كثير من البلدان الأخرى أيضا خطط مشابهة. إلا أنه يوجد دائما نوع من التوتر، لأن الأشخاص الذين يمكنهم الادخار من أجل التقاعد عادة ما يكونون في النصف الأعلى من هيكل توزيع الدخل. أما الأشخاص في النصف الأدنى فعادة ما يكون لديهم أموال أقل يمكنهم ادخارها. وفي كثير من الحالات، يُبلي نظام الضمان الاجتماعي بلاءً حسنا بوصفه بديلا لدخل ما قبل التقاعد للعاملين الأقل أجرا، وإن كان أصحاب الأجور الأعلى غالبا ما يحتاجون المدخرات الخاصة. ويجب أيضا أن نفهم أن الادخار يحظى بالتشجيع بالفعل. ولنكن صادقين، فالادخار ليس بالأمر الممتع!

التمويل والتنمية: الإنفاق هو الممتع.

ميتشيل: في الواقع، الإنفاق يبعث على الرضا في النفس إلى حد أبعد بكثير. وقد اكتشف البريطانيون أمرا يساعد من هذا المنطلق، وهو ما يسمى نظام اليانصيب الادخاري الذي ترعاه حكومة المملكة المتحدة. فمقابل كل جنيه استرليني يودعه أي شخص في حسابه المصرفي، يحصل على تذكرة يانصيب لسحب شهري. وفي المتوسط، يحصل هؤلاء الأشخاص تقريبا على نفس ما يمكنهم كسبه في شكل فائدة من حساب ادخار عادي، بيد أنه توجد عدة جوائز كبيرة. وبطبيعة الحال، يحب الناس الفوز باليانصيب. من أجل ذلك، فإنه يتعين علينا أن نفكر في سبل جديدة لجعل الادخار ممتعا.

التمويل والتنمية: ولكن هل تحفيز الناس على ادخار المزيد من أجل التقاعد ينطوي على بعض المخاطر، نظرا لأن الإنفاق هو ما يدفع النمو في حقيقة الأمر؟

ميتشيل: بقدر ما يوجه الناس مدخرات التقاعد إلى الاستثمارات، يساعد هذا الأمر أيضا على نمو الاقتصاد عن طريق إتاحة رأس المال للشركات المبتدئة في مجال التكنولوجيا والشركات الأخرى التي توفر فرص عمل. ومن وجهة نظري، ينبغي للحكومات أيضا بذل مزيد من الجهد لزيادة الوعي بمسألة طول العمر. وكما ذكرتُ سابقا، إن لم يفهم المرء إلى متى قد يطول به العمر، فسوف يرتكب أخطاءً مالية طوال مسيرته في الحياة.
وفي نهاية المطاف، ينبغي لخبراء الاقتصاد إجراء مزيد من الحوار مع صناع السياسات. وفي أحيان كثيرة، يميل الباحثون - في الحكومة، وفي المؤسسات متعددة الجنسيات، وفي قطاع الصناعة أيضا - إلى التحدث فيما بينهم بصفة أساسية. بيد أنه يتعين على صناع السياسات معرفة كيف يمكن للأكاديميين إرشادهم. وفي المقابل، يكون لديهم تساؤلات بشأن أمور قد يفحصها الأكاديميون ويقيِّمونها.

التمويل والتنمية: هل تشهد المعرفة المالية، أو الافتقار إليها، تحسنا في مجتمعنا؟

ميتشيل: إن المعرفة المالية أمر بالغ الأهمية بالتأكيد في هذا العالم المالي المعقد. في الولايات المتحدة، تجعل 21 ولاية حاليا فصول المعرفة المالية إلزامية في المدارس الثانوية. والأشخاص الراشدون الذين يكبرون وهم يحضرون تلك الفصول يكونون أفضل بكثير في التخطيط، وإعداد الميزانية، والادخار لما بعد التقاعد، وما إلى ذلك. وهذه المعرفة يمكن أن تُحدث أثرا مدى الحياة.

التمويل والتنمية: في يومنا هذا، يمكن أن يُستدرج المرء بسهولة إلى الاعتماد على مزيد من الائتمان. فهل تشعرين بالقلق حيال الطبيعة الانتهازية لبعض خيارات الاستثمار المتاحة؟

ميتشيل: بالفعل يساورني القلق حيال هذا الأمر، ولا سيما لجيل أصغر سنا يتزايد تركيزه على التطبيقات المتاحة على هواتفهم. ومن السهل أن ينخرط الناس في استخدام العملات المشفرة والمنتجات المالية المعقدة الأخرى التي ليس لديهم إلمام كافٍ بها. ونتيجة لذلك، يمكن أن ينتهي بهم الأمر إلى خسارة قدر كبير من الأموال. وفي أوقات سابقة، كان من الممكن أن يساعدك صاحب العمل على إدارة حسابات التقاعد الخاصة بك، وأن يساعدك الوسيط الصذي تتعامل معه على الاستثمار في سوق الأوراق المالية. ولكن لأن الناس يمكنهم اليوم الاقتراض والاستثمار مباشرة عبر بعض التطبيقات، يصبح من الأسهل بكثير أن يقعوا فريسة للخداع وحتى الاحتيال. وهذا أمر يمثل أيضا مثار قلق للأشخاص الأكبر سنا، حيث يتزايد الاحتيال أيضا.

التمويل والتنمية: ما الخطوات التي ينبغي للناس اتخاذها كي لا يشعروا بالقلق، ويتجنبوا أن تنفد أموالهم في سنوات تقاعدهم؟

ميتشيل: أود أن اقتبس كلمات باربرا جادج، خريجة جامعة بنسلفانيا، التي تولت إدارة نظام ضمان معاشات التقاعد في بريطانيا في فترة من الفترات. وقد تبنيت شعارها الذي قالت فيه: "اعمل لمدة أطول، وادخر قدرا أكبر، واخفض سقف توقعاتك". وهذا هو الوضع الذي نحن فيه اليوم. لذلك، فإذا كنتم أصحاء بما يكفي للبقاء في أعمالكم، فأنصحكم بالاستمرار في العمل قدر ما تستطيعون.

بروس إدواردز محرر في مجلة التمويل والتنمية

الآراء الواردة في هذه المقالات وغيرها من المواد المنشورة تعبر عن وجهة نظر مؤلفيها، ولا تعكس بالضرورة سياسة صندوق النقد الدولي.