5 min (1403 words) Read

كيف يمكن للاقتصادات أن تحقق الأكثر باستخدام الأقل؟

 

سواء كنا ندرك ذلك أم لا ندركه، فنحن نفكر في الإنتاجية طوال الوقت. هل يمكن أن آخذ مشروعا آخر إلى المنزل لأعمل عليه دون التضحية بعطلة نهاية الأسبوع؟ هل أستطيع توفير وقت التنقل بالعمل من المنزل؟ هل ستساعدني هذه الدورة التدريبية في أداء عملي بصورة أفضل؟

إن كتب المساعدة الذاتية تتصدر دائما قوائم المبيعات، والكتب الأكثر مبيعا الصادرة مؤخرا في الولايات المتحدة تعد القراء المحتملين بتقديم النصح عن كيفية "عمل المزيد في وقت أقصر"، أو "إنجاز أهدافك دون إجهاد"، أو "استرداد وقتك في عالم يتطلب المزيد".    

وقد فكر خبراء الاقتصاد الكلي في الإنتاجية بالقدر نفسه، وبالطريقة ذاتها. وينصب تركيزهم على إنتاجية الاقتصاد كله، وهو ما يشيرون إليه بمصطلح "الإنتاجية الكلية لعوامل الإنتاج".

وتمثل هذه الإنتاجية مقياسا لقدرة الاقتصاد على توليد الدخل من المدخلات – أي عمل المزيد باستخدام الأقل. والمدخلات المعنية هي عوامل الإنتاج في الاقتصاد، وعلى رأسها العمل الذي يقدمه الأفراد في هذا الاقتصاد ("العمل" على سبيل الاختصار) وأرضه، وآلاته، وبنيته التحتية ("رأس المال"). وإذا قام اقتصاد بزيادة دخله الكلي دون استخدام مزيد من المدخلات، أو إذا حافظ على مستوى دخله في الوقت الذي يستخدم فيه مدخلات أقل، يقال إنه يتمتع بمستوى أعلى من الإنتاجية الكلية لعوامل الإنتاج.

وطبقا لجداول بِن العالمية، فإن الاقتصادات التي تندرج فيها هذه الإنتاجية ضمن أعلى المراتب على مستوى العالم – بلدان مثل هولندا والنرويج وسويسرا والولايات المتحدة – هي أيضا من بين الاقتصادات الأكثر ثراءً على مستوى العالم. وبالنظر إلى هذا الارتباط بين الكفاءة الإنتاجية والرخاء الاقتصادي، فإن الاتجاهات العامة الأخيرة تدعو إلى القلق؛ إذ تشير الأبحاث الصادرة مؤخرا عن صندوق النقد الدولي إلى أن نمو الإنتاجية الكلية لعوامل الإنتاج قد تباطأ في مختلف أنحاء العالم منذ الأزمة المالية العالمية. وفي البلدان النامية ذات الدخل المنخفض، بلغ به التباطؤ ما يشبه التوقف التام في السنوات الأخيرة.   

مستويات المعيشة 

وتمثل الإنتاجية الكلية لعوامل الإنتاج إحصائية اقتصادية كلية مهمة، وذلك لسببين. الأول هو أن التحسينات في المستويات المعيشية يجب أن تأتي من نمو هذه الإنتاجية على المدى الطويل. ويرجع ذلك إلى أن مستويات المعيشة تقاس على أساس دخل الفرد – وبالتالي فإن الاقتصاد لا يمكنه رفعها بمجرد إضافة أعداد متزايدة من العاملين إلى القوة العاملة.

وفي الوقت ذاته، جمع الاقتصاديون كثيرا من الأدلة على أن الاستثمارات في رأس المال تتمخض عن عوائد متناقصة. وبالتالي، يصبح التقدم في الإنتاجية الكلية لعوامل الإنتاج هو المصدر الوحيد الممكن لتحقيق نمو مستمر في دخل الفرد، مثلما اتضح لأول مرة في دراسة بتاريخ 1957 أصدرها روبرت سولو، الاقتصادي الراحل الحاصل على جائزة نوبل.

كذلك يمثل نمو الإنتاجية الكلية لعوامل الإنتاج الحل لمن يقولون إن استمرار النمو الاقتصادي سيستنزف يوما ما موارد كوكبنا الآيلة للنفاد. فعندما تتحسن الإنتاجية الكلية لعوامل الإنتاج فهي تتيح لنا الحفاظ على مستويات المعيشة أو رفعها مع الحفاظ على الموارد، بما في ذلك الموارد الطبيعية كالمناخ والغلاف الحيوي.

والسبب الثاني لأهمية الإنتاجية الكلية لعوامل الإنتاج في علم الاقتصاد يرتبط ارتباطا وثيقا بالسبب الأول. فالفروق الواسعة في المستويات المعيشية مستمرة عبر البلدان. وبتحييد أثر الفروق في الأسعار الوطنية، قُدِّر متوسط دخل الفرد في جنوب السودان، وهي من أفقر بلدان العالم، بأقل من 1% من المتوسط المقابل في الولايات المتحدة التي تعد من أغنى بلدان العالم، في عام 2023.

ولا تفسر الفروق في ساعات عمل الأفراد أو قدرتهم على الوصول إلى رأس المال إلا نسبة ضئيلة من تلك التفاوتات في الدخل عبر البلدان. إنما تفسِّر فروق الإنتاجية الكلية لعوامل الإنتاج عبر البلدان أغلب هذه التفاوتات – أي أكثر من 66% منها حسب أحد التقديرات الأخيرة.

وهذا ما يجعل الإنتاجية هما رئيسيا يشغل صناع السياسات في كل مكان. فبالنسبة لصناع السياسات في اقتصادات الأسواق الصاعدة والاقتصادات النامية، تتمثل القضية الأساسية في كيفية سد فجوة الإنتاجية الكلية لعوامل الإنتاج مقابل البلدان الأكثر ثراءً. وبذلك فقط يكون بمقدورهم توفير وظائف أفضل ومستويات معيشية أعلى لمواطنيهم – ولا سيما في اقتصادات إفريقيا التي يُنتظر أن تشهد نمو سكانيا قويا في العقود القادمة.

وبالنسبة لصناع السياسات في الاقتصادات المتقدمة، يعني إذكاء نمو الإنتاجية الكلية لعوامل الإنتاج فتح آفاق جديدة أمام الإنتاجية. وهذا الأمر مطلوب لكي يصبح النمو مستداما، في مواجهة كل من الشواغل البيئية والمجتمعات التي تتزايد فيها أعداد المسنين. ومع انكماش نسبة البالغين في سن العمل، التي لن تعوضها أعداد المهاجرين إلا بصورة جزئية، يصبح للإنتاجية دور حيوي تقوم به في الحفاظ على مستويات المعيشة.

مقياس للجهل    

كيف يستطيع بلد أن ينمو أكثر بمدخلات أقل؟ لا توجد إجابة مباشرة لهذه المسألة الاقتصادية التي يساوي حلها تريليون دولار. فعلى المستوى الإحصائي، تقاس الإنتاجية الكلية لعوامل الإنتاج باعتبارها قيمة متبقية – ذلك الجزء من دخل البلد الذي لا يمكن عزوه إلى المدخلات من عوامل الإنتاج مثل العمل ورأس المال والتي من الأيسر قياسها كميا. وبالتالي فهي تمثل "مقياسا لجهلنا" بما يجعل هناك بلدانا غنية وأخرى فقيرة.

وبمرور الوقت، قلَّص الاقتصاديون من حجم هذا المتبقي بتحديد ثلاثة متغيرات على الأقل ترتبط ارتباطا وثيقا بارتفاع الإنتاجية الكلية لعوامل الإنتاج.

أولا، إنتاجية القوى العاملة: ترتفع الإنتاجية الكلية لعوامل الإنتاج في البلدان التي يحصل فيها العامل المتوسط على سنوات دراسة أكثر، وتكون جودة التعليم والتدريب فيها أفضل، وتتمتع العمالة فيها بصحة أفضل. هذه الميزات تتيح توليد قيمة مضافة اقتصادية أكبر من ساعة العمل المتوسطة – بالإضافة إلى تحسين جودة الحياة بصورة أشمل.

ثانيا، توزيع الموارد: حتى في حدود التعريف الضيق للأنشطة الاقتصادية، نجد أن بعض الشركات أكثر إنتاجية من شركات أخرى. وبالتالي، فمن المهم بالنسبة للإنتاجية الكلية في أي اقتصاد أن تكون الشركات الأكثر إنتاجية في أي قطاع قادرة على جذب معظم العمالة ورأس المال. وفي تلك الحالة، يوصف الاقتصاد بأنه اقتصاد "ذو كفاءة توزيعية". ومن ناحية أخرى، إذا ظل قدر كبير من العمالة ورأس المال حبيسا للشركات غير المنتجة نسبيا، يوصف الاقتصاد بأنه "غير ذي كفاءة توزيعية". ومن هنا تنخفض الإنتاجية الكلية لعوامل الإنتاج. 

ثالثا، التجارة الدولية: التجارة تحفز البلدان على التخصص في الصناعات التي تتمتع فيها بميزة نسبية، مما يسمح لها بتوزيع مواردها على نحو أكثر إنتاجية. ومن خلال الوصول إلى السوق العالمية، تتاح للشركات أيضا فرصة الاستفادة من وفورات الحجم، وتميل المنافسة الدولية إلى دعم الشركات المنتجة بدلا من نظيراتها غير المنتجة.

ويمكن أن نستخلص من هذه المتغيرات الثلاثة خطة جزئية تؤدي إلى اللحاق بمستويات أعلى من الإنتاجية الكلية لعوامل الإنتاج في الاقتصادات النامية، التي تتسم في الغالب بافتقار قواها العاملة إلى فرص الحصول على التعليم والرعاية الصحية، وانتشار سوء توزيع الموارد على نطاق أوسع، ووجود عقبات أكبر أمام نشاط التجارة الدولية.   

ويتطلب تحقيق هذا الهدف تعبئة التمويل لتحسين الخدمات الإنسانية التي يقدمها القطاع العام، وإلغاء الضرائب والدعم اللذين يشوهان الأسواق، وتخفيض الحواجز أمام المنافسة المنصفة بين الشركات، وكذلك الانفتاح أمام التجارة الدولية.

وتفيد الدراسات الاقتصادية بأن من شأن ذلك سد جانب من فجوة الإنتاجية الكلية لعوامل الإنتاج بين البلدان الغنية والفقيرة. غير أن جانبا كبيرا من هذه الفجوة لا يزال عصيا على التفسير.

قوة الابتكار

وبالإضافة إلى ذلك، فمن غير المرجح لهذه التدابير أن تحقق الكثير من النمو الإضافي في الإنتاجية الكلية لعوامل الإنتاج في الاقتصادات المتقدمة. فهي تعمل بالفعل في مستوى قريب من المستوى الأقصى لإنتاجية قوة العمل، والكفاءة التوزيعية، والانفتاح التجاري. وفي هذه الاقتصادات، يمثل الابتكار في التكنولوجيا، وعمليات الإنتاج، وتنوع المنتجات المصدر الأرجح لنمو الإنتاجية على نحو مستمر، غير أن هناك أدلة متزايدة على أن تأثير هذا الابتكار قد تباطأ في العقود الأخيرة.

فما الذي يمكن أن تفعله الاقتصادات المتقدمة إذن؟ أولا، ينبغي أن تنتهج مبدأ "عدم إلحاق الضرر" عن طريق تجنب أخطاء السياسات، كالسماح بتدهور المنافسة السوقية بسبب استخدام الشركات القوية لمراكزها الاحتكارية لخنق فرص الدخول والابتكار، أو العودة إلى الحمائية التجارية باهظة التكلفة. وبخلاف ذلك، ينبغي لصناع السياسات صياغة قواعد تنظيمية تستفيد من مزايا الإنتاجية التي يمكن أن تحققها الابتكارات الحديثة في التكنولوجيا الخضراء وتكنولوجيا المعلومات والاتصالات والذكاء الاصطناعي. وينبغي لهم التصدي للحواجز المتبقية التي تحول دون استفادة قطاعات الاقتصاد كلها من المهارات والإمكانات المبتكرة لدى النساء والأقليات.

إن التفاصيل الدقيقة التي تنطوي عليها الإنتاجية الكلية لعوامل الإنتاج قد تبدو بعيدة عن الحياة اليومية. ولكن إذا أصبحت الإنسانية تعاني من ضغوط أقل وتتمتع بعطلات نهاية أسبوع أطول بعد مضي عقود من الآن، فمن المرجح أن معظم الفضل في ذلك سيرجع إلى نمو الإنتاجية الكلية لعوامل الإنتاج – وليس إلى كتب المساعدة الذاتية.

روبرت زايميك يعمل اقتصاديا في إدارة البحوث بصندوق النقد الدولي.

الآراء الواردة في هذه المقالات وغيرها من المواد المنشورة تعبر عن وجهة نظر مؤلفيها، ولا تعكس بالضرورة سياسة صندوق النقد الدولي.