5 min (1403 words) Read

مع بلوغ صندوق النقد الدولي عامه الثمانين، يزخر تاريخه بدروس مهمة لإدارة المخاطر الدولية المستقبلية

ينطوي المؤتمر النقدي والمالي للأمم المتحدة في 1944 الذي عُقد في شهر يوليو من ذلك العام في بريتون وودز بولاية نيو هامبشير الأمريكية على سرد مؤثر لكيفية معالجة بلدان العالم للتحديات العالمية الجماعية.  وهو يشكل بداية عهد جديد في تاريخ العالم، عصر من التعافي الاقتصادي المستدام، والرخاء واسع الانتشار، والنمو الديناميكي، والتنمية الخالية من الأزمات، والاستقرار السياسي. ولا يزال مؤتمر بريتون وودز مصدر إلهام للكثيرين، حيث يسعى صناع السياسات والأكاديميون على السواء إلى إحياء رسالته أو إعادة اكتشافها أو إعادة صياغتها.

وقد ارتكز المؤتمر، أولا، على رؤية سياسية واسعة - حسب وصف وزير الخزانة الأمريكي هنري مورغنتاو جونيور - بأن الرخاء والسلام لا ينفصلان، ولا يمكن معالجة أحدهما بمعزل عن الآخر. وجاءت هذه الرسالة في وقت كان العالم بأسره يكتوي بنيران الحرب، فالحرب العالمية الثانية فاقت كثيرا الحرب الأولى من حيث طابعها العالمي. وكان الدفع لإقامة نظام عالمي جديد يستند إلى الدروس المستخلصة من الحرب: كيف كان الصراع الدموي نتاجا للانهيار الاقتصادي العالمي، أي الكساد الكبير؛ وما تبعه من انخراط في الراديكالية السياسية؛ وتفكك النظام العالمي إلى كتل متنافسة.  

ثانيا، كان هناك تصور حول آلية اقتصادية دقيقة لإدارة الشؤون النقدية في العالم، حيث التزمت بلدان العالم باتباع قاعدة معينة بخصوص سعر الصرف، فإذا ما تعرض هذا السعر للمخاطر تحصل على المساعدة من صندوق النقد الدولي المصمم ليكون بمثابة مؤسسة تعاونية ائتمانية أو آلية للتأمين. ويتمثل الأساس الفكري في تفسير الكساد الكبير باعتباره ناجما عن تحركات رؤوس الأموال دون عائق، أي تدفقات الأموال الجوالة. وكان المؤسسون الأوائل لمؤسستي بريتون وودز مقتنعين بأنه لا ينبغي أن تتكرر مثل هذه الأحداث المزعزعة للاستقرار، ونصت اتفاقية تأسيس الصندوق على مواصلة الحفاظ على ضوابط رأس المال حتى أثناء التحول إلى تحرير التجارة.  

من رؤية مستقبلية إلى واقع ملموس

غير أن هذه الركائز، السياسية والاقتصادية، انهارت ولم يتم تنفيذ رؤية نظام بريتون وودز العامة على النحو الذي استهدفه المؤسسون. وبينما كان ينتظر أن يكون هذا النظام عالميا بمعنى الكلمة، قرر الاتحاد السوفيتي - الذي كان ممثلا بقوة في المؤتمر - عدم المصادقة على اتفاقية تأسيس الصندوق. وتم استبعاد صندوق النقد الدولي من الدعوة الأمريكية القوية لإعادة تعمير البلدان الأوروبية، أي "خطة مارشال". وانقسم العالم بسبب "الستار الحديدي". وبدا صندوق النقد الدولي في أولى سنواته وكأنه يفقد أهميته تدريجيا، ولم تدب الحياة في أوصاله فعليا إلا نتيجة لأزمة امتزجت فيها العوامل الأمنية والمالية في عام 1956، عندما شعرت الولايات المتحدة بالقلق البالغ من تدخل بريطانيا وفرنسا في أزمة السويس، وتعرضت البلدان الأوروبية الكبرى لضغوط مالية هائلة. 

وسرعان ما أقيم حوار حول مدى كفاية الاحتياطيات وما إذا كانت السيولة كافية. وتوصلت القيادات الاقتصادية إلى حلول مؤقتة. ولكن بحلول الستينات من القرن الماضي، وبينما كانت بلدان العالم تكافح من أجل وضع خطط لإصلاح النظام النقدي الدولي، ظهرت شكاوى بأن الاقتصاديين كانوا كمن استغرق في التفاصيل الدقيقة لغابة وأهمل أهم أشجارها.

ومرة أخرى جاءت إعادة صياغة اتفاقية بريتون وودز في السبعينات نتيجة اقتران تحد أمني بأزمة اقتصادية ومالية. فقد انهارت القاعدة الأساسية لنظام بريتون وودز، أي نظام أسعار التعادل (الذي حدد سعر صرف ثابتا) مع بداية مطالب البلدان المنتجة للنفط برفع الأسعار وزيادة النفوذ السياسي. وشعرت بلدان العالم بأنها معرضة للمخاطر؛ وتعرضت الديمقراطيات للضغوط. واستجابة لتلك الأوضاع، اتخذ صندوق النقد الدولي إجراءات جديدة تسمح له باستخدام الموارد المقترضة في دعم الاقتصادات النامية المتضررة من أسعار الطاقة المرتفعة - عن طريق إنشاء تسهيلَي النفط.

وأدت تحركات رؤوس الأموال إلى خلق مواطن ضعف جديدة. ففي عام 1982، هددت أزمة المديونية، الأشد بروزا في أمريكا اللاتينية، بانهيار النظام المالي العالمي. وفي تلك اللحظة، بدأ الصندوق يعمل بطريقة جديدة، والتزم بتوفير قروض جديدة من خلال دوره كمقرض الملاذ الأخير، وكذلك كمنسق حزم الإنقاذ التي تقوم بموجبها البلدان بتصحيح أوضاعها ويتم إنقاذ البنوك من الداخل.

مقرض الملاذ الأخير

بعد خمسين عاما من مؤتمر بريتون وودز، وصف مدير عام الصندوق "ميشيل كامديسو" أزمة البيزو المكسيكي بأنها "أول أزمة مالية في القرن الحادي والعشرين". وجاءت في أعقاب طفرة غير مسبوقة من تدفق الأموال إلى البلدان متوسطة الدخل. وكانت أزمة 1994 مختلفة تماما عن صدمة أمريكا اللاتينية في 1982 التي بدأت أيضا مع حدوث مشكلة مكسيكية. ففي هذه المرة كانت هناك قاعدة متنوعة من حائزي السندات المكسيكية الأجانب - وليس مجرد عدد محدود نسبيا من البنوك - بحيث استجابت سريعا لتكثف مشاعر القلق إزاء فورة النشاط الاقتصادي وحالة عدم الاستقرار السياسي، في أعقاب اندلاع انتفاضة عنيفة واغتيال شخصية سياسية بارزة خلال عام الانتخابات الرئاسية. ولم يكن بالإمكان حشد أعداد الدائنين الكبيرة لتوفير قروض جديدة. وظل الحل الواضح، المتمثل في إنشاء آلية لإشهار الإفلاس السيادي، ربما يتولى الصندوق تنسيق عملها وتنفيذها، بعيد المنال. ولم يتبق سوى اللجوء إلى ثاني أفضل منهج ممكن، بتوفير قروض جديدة بمبالغ كبيرة- حيث استمر هذا المنهج يشكل الفلسفة السائدة للاستجابة للأزمات الناجمة عن تقلب تدفقات رأس المال. 

وتم حل تلك الأزمة المحددة جزئيا عن طريق برنامج اقتصادي وضعه الصندوق، ولكن الصندوق بمفرده لم يكن يملك الموارد الكافية لكي يتصرف ببساطة كمقرض الملاذ الأخير. واستلزم الوضع في المكسيك كذلك الحصول على حزمة دعم ثنائي كبيرة من الولايات المتحدة، في هيئة ائتمان بمبلغ 20 مليار دولار من "صندوق تثبيت سعر الصرف"، وهو جهاز من حقبة الكساد ظل منسيا إلى حد كبير ويتمتع بخاصية ملائمة تسمح للإدارة الأمريكية بتجنب شرط الحصول على الموافقة من الكونغرس المعارض. وكانت عملية الإنقاذ مثيرة للجدل، وذهب بعض صناع السياسات إلى أنه لم يكن من الملائم أن يقوم الصندوق بإقراض بلد ما لتجنب وقوع أثر معاكس على بلد آخر.

وأفرزت فترة منتصف التسعينات اعترافا بأنه في ظل حجم أسواق رأس المال، لن تكون آليات الإنقاذ التقليدية كافية على الأرجح. وتعزز هذا الدرس مع وقوع الأزمة الآسيوية في 1997-1998، عندما اقتضت كل حزم الدعم وجود مزيج من تمويل الصندوق والتمويل الثنائي. 

وتم إيضاح التبعات على مستوى السياسات في اجتماع يونيو 1995 لرؤساء دول مجموعة السبعة الذي عقد في مدينة هاليفاكس الكندية، والذي كان يسعى إلى إعادة تعريف مهام صندوق النقد الدولي في ضوء ما كان على وشك أن يعرف عموما باسم العولمة. ودعا البيان الصادر عن القمة إلى قيام الصندوق بوضع مقاييس مرجعية واتخاذ إجراءات من أجل نشر أهم البيانات الاقتصادية والمالية في الوقت المناسب. واستجاب الصندوق لتلك الدعوة بإنشاء إدارة الأسواق النقدية والرأسمالية في عام 2001 - التي كان الغرض منها "القيام بدور محوري في العمل المفاهيمي الذي يضطلع به الصندوق" - بالإضافة إلى نشر "تقرير الاستقرار المالي العالمي" الجديد الذي يصدر مرتين سنويا، والمنبثق عن دمج المطبوعتين السابقتين Emerging Market Financing (تمويل الأسواق الصاعدة) و International Capital Markets Report (تقرير أسواق رأس المال الدولية). 

وبدءا من التسعينات، لم تعد هناك قاعدة واضحة وبسيطة، ولم تعد هناك مؤسسة واحدة تحتل الصدارة من إدارة المخاطر الدولية. وأصبحت إدارة أعمال الرقابة وإدارة الأزمات على السواء موكلة إلى مؤسسات متعددة، مع تداخل المسؤوليات بينها وتعدد مصادر حصولها على القروض الجديدة. وقد اعتمد الصندوق في رقابته على القطاع المالي المنهجيات التي وضعتها لجنة بازل لهيئات الرقابة المصرفية، وهي مجموعة لا تمثل مبدئيا سوى البلدان الصناعية. وفي آسيا، أنشأت رابطة أمم جنوب شرق آسيا (آسيان) آلية تكميلية موازية لأعمال الرقابة. وكان الهدف من ترتيبات مبادلة العملات الثنائية بموجب مبادرة شيانغ ماي في عام 2000 هو تكملة عمليات صندوق النقد الدولي. 

ولكن كانت هناك حاجة للمزيد من جهود التنسيق. واستجابة للأزمة الآسيوية تم إنشاء منتدى الاستقرار المالي (FSF)؛ وفي عام 2009 تم تعزيز هذه المجموعة وأعيد تسميتها إلى مجلس الاستقرار المالي (FSB). وأصبح جهاز الإنقاذ ممثلا في "شبكة الاستقرار المالي العالمي"، مع قيام العديد من مقدمي الخدمة بالعمل من خلال ترتيبات التمويل الإقليمية. وكررت قمة مجموعة العشرين في لندن عام 2009 تحركا حاسما سبق أن اتخذه مؤتمر بريتون وودز وذلك بنقل السلطة من البنوك المركزية التي تولت إدارة منتدى الاستقرار المالي إلى مجموعة أوسع من الحكومات في مجلس الاستقرار المالي الجديد.

دروس في إدارة المخاطر

هناك عدة دروس يمكن استخلاصها من هذا النموذج المتشابك لإدارة المخاطر المالية العالمية:

أولا، المخاطر التي تهدد الاستقرار قد تأتي من أي مكان: بعد أزمة المكسيك في 1994-1995 والأزمة المالية في بلدان آسيا في 1997، وانتشار آثارهما بعد ذلك إلى البرازيل وروسيا في 1998، كان هناك افتراض واسع النطاق بأن الصدمات ستنبع من الأسواق الصاعدة التي تفتح أبوابها أمام تدفقات رأس المال. ولم تكن هناك أي برامج لتقييم القطاع المالي بين الصندوق والولايات المتحدة والمملكة المتحدة، وهما بلدان اتضح أنهما كانا في مركز الأزمة المالية لدى اندلاعها بعد عام 2007. وقد برع الصندوق في رؤية التهديدات المحيطة ببلد ما من منظور هامشي. ففي نهاية 2006، على سبيل المثال، أعد خبراء الصندوق نموذج محاكاة لأزمات محتملة في أسواق رأس المال في أوروبا الوسطى والشرقية. وباستعراض أحداث الماضي، يبدو هذا النموذج نسخة دقيقة بدرجة هائلة لهجمة المضاربة التي جعلت هنغاريا لفترة قصيرة في 2008 تبدو كأنها مركز عدوى عالمية جديدة. وهذا التوقع يساعد في تفسير سرعة التوصل إلى اتفاق بعقد برنامج مع هنغاريا في 2008 وضخامة حجم هذا البرنامج. ولكن مع محدودية بعد نظر الصندوق تعذر عليه رؤية الصدمة الأكبر كثيرا التي بدأت في سوق الرهن العقاري والنظام المالي في الولايات المتحدة.

ثانيا، حجم التهديد يتوقف على بعض الروابط التي قد يتعذر تحديدها بدقة مسبقا: أفرزت الفترة التي أعقبت الأزمة المالية العالمية في 2008 انتقادات عنيفة، بما في ذلك من مكتب التقييم المستقل في الصندوق، بأن الصندوق "عجز عن تحقيق المستوى الكافي" من أهدافه الرئيسية نتيجة اعتماده "درجة عالية من التفكير الجماعي؛ والاختطاف الفكري؛ وانتشار نمط فكري عام بأنه من غير المحتمل وقوع أزمة مالية كبرى في الاقتصادات المتقدمة الكبيرة".  وكانت الاستجابة هي بالمضي قدما، بمقتضى قرار الرقابة الموحدة لعام 2021، للانضمام إلى الممارسات السابقة للرقابة الثنائية ومتعددة الأطراف. وعلى وجه الخصوص، ركزت تقارير التداعيات مبدئيا على تأثير التطورات في الاقتصادات الكبرى ثم انتقلت إلى التفكير في الروابط النظامية. 

القضايا الأمنية أو السياسية والعسكرية يتعين تسويتها جنبا إلى جنب مع التحديات الاقتصادية والمالية.

ثالثا، الخصائص الدقيقة لهذه الروابط غالبا ما تكون مبهمة: ليس من السهل إدارة أوجه التشابك في نظام تعمل من خلاله مؤسسات متعددة. فمن يُعنى بالغابة ومن يقيس أشجارها؟ وقد ظلت الرابطة بين عوامل السلامة الاحترازية الجزئية والسلامة الاحترازية الكلية مصدرا رئيسيا للضعف. فما الذي تتضمنه الميزانيات العمومية للبنوك تحديدا أثناء موجات العولمة المالية؟ وما هي الروابط مع المؤسسات خارج الميزانية العمومية؟ وهذه أمور يمكن لهيئات الرقابة المصرفية المنفردة أن تُعنى بمسؤولية تحليلها لكنها لم تُحَلْ - ولم يكن بالإمكان إحالتها - بانتظام إلى مؤسسة دولية كصندوق النقد الدولي. (في واقع الأمر، تعفي اتفاقية تأسيس الصندوق الحكومات من مسؤولية تقديم بيانات حول مؤسسات معينة).

وبالتالي، كان هناك ضغط مستمر. فالمراقبون الذين اجتمعوا في إطار لجنة بازل للرقابة المصرفية كانوا أكثر دراية إلى حد ما: فقد كان بمقدورهم رؤية كل شجرة بوضوح.  بينما كان المنهج العالمي العام يرى الغابة لكنه كان عاجزا بالفعل عن استكشاف الشجر.

رابعا، التحديات على المدى الطويل قد تجلب تهديدات مباشرة للاستقرار ومن ثم يجب معالجتها. يمثل التغير المناخي - أو ربما بشكل أعم الضرر الناجم عن "عصر الأنثروبوسين" - تحديا كبيرا ومتزايد الصعوبة يقتضي اتخاذ إجراءات عاجلة. ومن المعقول أيضا أن تنتابنا مشاعر الإحباط إزاء الجهود المبذولة حتى الآن، فقد اعتُبر مؤتمر الأمم المتحدة الثامن والعشرون بشأن التغير المناخي COP28)) ضعيفا بوجه عام. وهنا نجد درسا مهما من التاريخ لم يحظ بالاهتمام الكافي. فسوف تظل هذه الظواهر في دائرة المناقشات المجردة، أو التوتر، أو القلق ما لم يتم قياسها بدقة. وتوفير البيانات عن التكاليف ضروري لبناء توافق في الآراء حول إيجاد الحلول.

وكان بوسع البنك الدولي والصندوق وقت انعقاد مؤتمر بريتون وودز التفكير بصورة مختلفة حول التنمية بسبب إطار لنظام محاسبة الدخل القومي سبق وضعه غالبا في البلدان الصناعية لمواجهة تحدي تعبئة الموارد من أجل الحرب.  واليوم، نجد أن الصحف العالمية، في سياق تقاريرها عن الاجتماعات المشتركة بين الصندوق والبنك الدولي التي تعقد مرتين سنويا، تركز على تقديرات تطور إجمالي الناتج المحلي. فهي ترى أن إجمالي الناتج المحلي مهم لأن الصندوق لا يزال يضع هذا المقياس في موضع الصدارة. ولكن عندما يتعلق الأمر بالتفكير في المحيط الحيوي للأرض، نجد أن إجمالي الناتج المحلي هو مصدر هدر وليس أصلا؛ فهو يتسبب في تآكل وليس تعزيز ثروات الدول على المدى الطويل.

خامسا، التحديات الأمنية يمكن أن تؤدي كذلك إلى زعزعة الاستقرار المالي. نحن نعيش اليوم في عالم يتسم بهيمنة الشواغل الأمنية - التي توصف غالبا بصورة فضفاضة بعبارة "السياسة الجغرافية المتغيرة" - على الأنباء الاقتصادية: سواء كان النقاش في الطرف الغربي من الكتلة الأوراسية يدور حول توفير الغاز الروسي وتسعيره أو تزايد التوترات حول مقاطعة تايوان الصينية وفي بحر الصين الجنوبي على الجانب الشرقي. ومن سمات اتفاق بريتون وودز التي لا تحظى بالاهتمام الكافي هو ذلك التوازي بين الصندوق والبنك الدولي من جهة ومنظمة الأمم المتحدة الأوسع نطاقا من جهة أخرى. فأكبر خمسة أعضاء حسب الحصص في مؤسستي بريتون وودز كانوا متطابقين مع الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن، وهم الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي والصين والمملكة المتحدة وفرنسا. ولكن هذا التماثل انكسر عندما قرر الاتحاد السوفيتي عدم الانضمام.

وأدت الحرب المطولة التي أعقبت الهجوم الذي شنته روسيا على أوكرانيا في 2022 إلى استحداث نوع جديد من برامج صندوق النقد الدولي، وهو الاتفاق مع بلد في حالة حرب. وكان يتعين تغيير برنامج ضمانات التمويل لمراعاة الظروف الخاصة للبلدان التي تعاني من "ارتفاع استثنائي في درجة عدم اليقين".

واستلزم البرنامج كذلك ضمانات وقائية في هيئة ضمانات من دائنين ثنائيين باستعدادهم لتقديم تخفيف لأعباء الديون بمجرد انقشاع غيوم عدم اليقين الاستثنائية. وتسلط معاناة أوكرانيا ضوءا جديدا على الدروس المستخلصة من عام 1944 - بأن القضايا الأمنية أو السياسية والعسكرية يتعين تسويتها جنبا إلى جنب مع التحديات الاقتصادية والمالية. وبينما تمتد رحى الحرب الروسية-الأوكرانية إلى جميع أنحاء العالم، بما في ذلك في السودان وهو الأكثر إثارة للدهشة، أصبح الصراع وليس الرخاء منتشرا عالميا. وبات التوصل إلى حلول كافية لأجواء عدم اليقين التي يخلقها الصراع هو خطوة رئيسية نحو التخلص من أسلوب التفكير الصفري الذي دفع العالم في السابق إلى كارثة. 

هارولد جيمس هو أستاذ التاريخ والشؤون الدولية بجامعة برينستون ومؤرخ في صندوق النقد الدولي.

الآراء الواردة في هذه المقالات وغيرها من المواد المنشورة تعبر عن وجهة نظر مؤلفيها، ولا تعكس بالضرورة سياسة صندوق النقد الدولي.