محاضرة هيلين ألكساندر: موجبات أهداف التنمية المستدامة
17 سبتمبر 2018
مساء الخير. يشرفني أن أكون معكم اليوم في هذه المحاضرة الافتتاحية إحياءً لذكرى سيدة رائعة – هي السيدة هيلين ألكساندر. وأود توجيه تحية خاصة لزوجها تيم، وأبنائها نينا وليو وغريغوري وكل أفراد أسرتها وأصدقائها الحاضرين هذا المساء. شكراً لك زاني على دعوتك الكريمة، وشكراً لك جون على المقدمة الرقيقة. واسمحوا لي أيضاً أن أوجه التحية لكارولين فيربيرن من اتحاد الصناعة البريطاني، وكل الحاضرين من شركة UBM وجامعة ساوثهامبتون.
لقد تركت هيلين لدى كل منا ذكريات وصور وكلمات باقية. فكيف يمكن أن نصفها؟ من الكلمات التي أسمعها كثيراً قولهم إنها حادة الذكاء، ودؤوبة، ومدقِّقة، وبراغماتية، ومثابرة، وشديدة التفاني. وأسمع أيضاً أنها رحيمة، وعادلة، ومهذبة للغاية، ومرشدة رائعة: نموذج يحتذى وشخصية دائماً ما تضع العلاقات الإنسانية قبل كل شيء، سواء على مستوى الأسرة أو الأصدقاء. وكلنا مدين لهيلين، لأنها أعطت الكثير. وأنا شخصياً مدينة لها لأنني خذلتها ذات مرة.
وحين تأملت هذه المجموعة المزدوجة من الفضائل المرتبطة بهيلين – وفي ذهني بعض التحديات العالمية الأكثر إلحاحاً والتي كانت هيلين حريصة على تتبعها عن كثبت - رأيت أنه من الملائم التركيز في كلمتي على أهداف التنمية المستدامة (SDGs) التي اعتمدها المجتمع الأممي في 2015 كخارطة طريق للسياسات حتى نهاية 2030.
فأهداف التنمية المستدامة تحدد معالم العالم الذي ننشده، بل ونحتاجه – عالم خال من الفقر والحرمان؛ عالم أكثر إنصافاً؛ عالم يحترم الحدود الطبيعية. إنها تمثل المبادئ الخمسة التي تبدأ كلماتها الإنجليزية بالحرف P: الرخاء والناس وكوكب الأرض والشراكات والسلام.
أهداف التنمية المستدامة هي الاستجابة الصحيحة لمواجهة التحديات الكبرى في القرن الحادي والعشرين، الترياق الصحيح لعلاج فقدان الثقة في كل أنواع المؤسسات، وكذلك فقدان الإيمان بأهمية التعاون العالمي في بعض البلدان.
لكن المشكلة هنا هي أن تحويل الطموحات إلى خطط عملية ليس بالأمر الهين. إذ أنه يتطلب تلك الخصال التي عُرِّفَت بها شخصية هيلين – الطابع العملي المقترن بالسلوك اللائق.
إن جدول أعمال أهداف التنمية المستدامة هو جدول شامل لكل شيء. وسيكون تركيزي اليوم على نطاق أضيق – حيث أتناول المساحة المشتركة بين أهداف التنمية المستدامة والمهمة المنوطة بصندوق النقد الدولي في تحقيق الاستقرار الاقتصادي والرخاء الاقتصادي على مستوى العالم بصورة تجمع بين الاستدامة واحتواء الجميع.
وعلى وجه التحديد، سأتناول أربعة أبعاد: (1) الاقتصادي - مساعدة البلدان منخفضة الدخل على تحقيق أهداف التنمية المستدامة؛ (2) الاجتماعي – أهمية الإدماج والإنصاف؛ (3) البيئي – معالجة تغير المناخ؛ (4) الحوكمة – الأهمية المركزية للمؤسسات القوية.
1- البُعد الاقتصادي
واسمحوا لي أن أبدأ بالبُعد الاقتصادي – حيث أود التركيز على التحديات الخاصة التي تواجه البلدان منخفضة الدخل في تحقيق أهداف التنمية المستدامة.
لننظر في بعض الحقائق. هناك أكثر من مليار نسمة انتزعوا أنفسهم من براثن الفقر المدقع منذ عام 1990، في سياق زيادة الاندماج العالمي. إنه إنجاز هائل غير مسبوق على مدار التاريخ الإنساني. ومع ذلك، فهناك قرابة 800 مليون نسمة لا يزالون يرزحون تحت وطأة الفقر المدقع حتى اليوم.
وفي مجال الصحة أيضاً، انخفضت وفيات الأطفال بمقدار النصف مقارنة بعام 1990، بمساهمة كبيرة من الأهداف الإنمائية للألفية التي جاءت أهداف التنمية المستدامة خلفاً لها. ولكن، رغم هذا الانخفاض الكبير، فإن قرابة 6 ملايين طفل لا يزالون يموتون كل عام قبل بلوغ عامهم الخامس – وكل الحالات تقريباً يمكن إنقاذها بتدخل طبي بسيط.
وينطبق هذا على التعليم – تقدم كبير، مع فجوات كبيرة باقية. ففي إفريقيا جنوب الصحراء، حوالي خُمْس الأطفال في سن التعليم الابتدائي غير ملتحقين بالمدارس. وكثير من الملتحقين بالمدارس لا يتعلمون. فعلى مستوى العالم، 58% من طلاب المرحلتين الابتدائية والإعدادية – أي 617 مليون طفل - غير ملمين بأساسيات القراءة والرياضيات.
وطبقاً لمنظمة اليونسكو، يمكن تخفيض الفقر بمقدار النصف إذا استكمل الجميع تعليمهم الثانوي. وفي ضوء ما نعرفه عن مستقبل العمل، كيف يمكن لأحد أن يزدهر في الاقتصاد الحديث دون تعليم ثانوي على الأقل؟
وكما قال هربرت جورج ويلز ذات مرة "يتحول التاريخ الإنساني أكثر وأكثر إلى سباق بين التعليم والكارثة."
ويمكن أن أقدم حججاً مماثلة عن الآثار الاقتصادية لعدم إتاحة ركائز مادية أخرى يقوم عليها الازدهار البشري – الرعاية الصحية، والمياه النظيفة والمرافق الصحية، والطاقة النظيفة، وتوافُر التمويل لمساعدة الناس على حماية أنفسهم وشق طريقهم بنجاح.
أعلم أن هيلين كانت شغوفة للغاية بهذه القضايا. كانت تدرك الأهمية البالغة للتعليم الذي يركز على مواجهة التحديات الحديثة، وتجد متعة في أداء دورها كرئيس لجامعة ساوثهامبتون. كانت تحب رؤية الحماس على وجوه الخريجين وهي تسلمهم شهادات التخرج.
وفي مجال الرعاية الصحية أيضاً، كانت فخورة بمركز دراسات المناعة من السرطان في ساوثهامبتون. وكانت تشارك بالجري سنوياً في سباق "ريس فور لايف" منذ عام 2002، وحتى في 2015 عشية إجرائها جراحة خطيرة. وحين كانت تعلم بمرض شخص تعرفه، كانت تبادر دائماً بزيارته في المستشفى.
ونحن في الصندوق نقدر أهمية رأس المال البشري للنمو والتنمية. ونحن ملتزمون بدعم أهداف التنمية المستدامة هذه من خلال تقديم المساعدة في الجانب الاقتصادي الكلي.
وعلى وجه الخصوص، نقوم بتقدير احتياجات الإنفاق في خمسة قطاعات أساسية – التعليم، والصحة، والمياه والمرافق الصحية، والطرق، والكهرباء – لكل من الأسواق الصاعدة والبلدان منخفضة الدخل، كما نستكشف الحلول الممكنة للتمويل.
وفي الأسبوع القادم، سأقدم هذه النتائج في جلسة خاصة تعقدها الأمم المتحدة دعا إليها الأمين العام غوتيريس. ولن أستبق النتائج هنا، لكنني سأقول إن سد احتياجات الإنفاق الإضافي في البلدان منخفضة الدخل بشكل خاص سيتطلب شراكة قوية بين كل الأطراف المعنية – البلدان نفسها، وكذلك المانحون الرسميون، وجهات العمل الخيري، ومؤسسات التمويل الخاص. وأنا متفائلة بإمكانية تحقيق هذا الهدف.
غير أن هناك بعض التعقيدات الإضافية التي يتعين التصدي لها. فالحاجة إلى زيادة الإنفاق في البلدان منخفضة الدخل تأتي في وقت تبدو فيه ديونها متزايدة الخطورة – إذ إن 40% من هذه البلدان أصبحت شديدة التعرض لبلوغ مرحلة المديونية الحرجة أو أنها لا تستطيع خدمة ديونها بالكامل، بعد أن كانت هذه النسبة 21% منذ خمس سنوات. وفوق ذلك كله، يزداد اقتراض البلدان منخفضة الدخل بشروط غير ميسرة، مما يزيد من تكاليف خدمة الدين. وإذا كان تنفيذ أهداف التنمية المستدامة بمثابة سباق، فلا شك أنه سباق متزايد الصعوبة.
وفي نهاية المطاف، يجب أن يكون دعم أهداف التنمية المستدامة في البلدان منخفضة الدخل أولوية عالمية. فليس هذا المسلك الصحيح فقط، إنما هو المسلك الذكي أيضاً. ليس هذا من قَبيل التضامن فقط؛ إنما هو من قبيل المصلحة الذاتية أيضاً. فبدون تنمية مستدامة في الداخل، لا شك أن الضغوط الاقتصادية والاجتماعية المتأججة – التي يفاقمها النمو السكاني السريع والضغوط البيئية المتنامية – ستنتشر عبر الحدود بطرق شتى، منها تحركات الأفراد في صورة جماعية.
لهذا تكتسب الشراكات أهمية كبيرة. فالمطلوب هو شعور بالمسؤولية المشتركة عن الصالح العام – يقوم على ذلك المزيج من العملية والإنسانية الذي كان سمة مميزة لشخصية هيلين. ويمكن أن أتصور كم كانت تشجع أعضاء اتحاد الصناعة البريطاني حين كانت ترأسهم.
2- البُعد الاجتماعي
وأنتقل الآن إلى البُعد العام الثاني في أهداف التنمية المستدامة – الإدماج، سواء بمعنى الحد من عدم المساواة في توزيع الدخل والمساواة بين الجنسين.
إن عدم المساواة في توزيع الدخل أصبح من أكبر التحديات في الاقتصاد العالمي. وقد شهدت بعض المناطق تقدماً هائلاً بالفعل في تخفيض الفقر وتوسيع الطبقة المتوسطة على مدار العقود القليلة الماضية. وتم تخفيض عدم المساواة بين البلدان، ولكن ليس في داخلها.
فمنذ عام 1980، أصبح أصحاب أعلى 1% من الدخول في العالم يحصلون على ضِعف مكاسب النمو التي يحصل عليها أصحاب أدنى 50% من الدخول. وعلى مدار تلك الفترة، شهدت الاقتصادات المتقدمة ارتفاعاً متزايداً في تباين الدخول، وهو ما يرجع في جانب منه إلى التكنولوجيا وفي جانب آخر إلى الاندماج العالمي وفي جانب ثالث إلى السياسات التي تعطي أفضلية لرأس المال على العمالة.
وثمة انعكاسات مثيرة للقلق، وخاصة في هذه الاقتصادات المتقدمة. ففي هذه الاقتصادات، يساهم تزايد عدم المساواة في تلاشي مجتمعات وأنماط حياة بالكامل؛ وتفكك عرى التماسك الاجتماعي واضمحلال الشعور بالمصير المشترك؛ وتنامي الاتجاه لشيطنة الآخر بدلاً من التشاور معه، والانكفاء على الداخل بدلاً من الشراكة.
ومن الطبيعي أن يؤدي هذا إلى صعوبة أكبر في التوصل إلى اتفاق حول أنواع السياسات والشراكات اللازمة لتحقيق أهداف التنمية المستدامة.
وليس غريباً أيضاً أن أبحاث الصندوق خلصت إلى أن تقليص عدم المساواة يقترن بنمو أقوى وأكثر قابلية للاستمرار.
ومن القضايا الأساسية في هذا الصدد أن عدم المساواة المفرط يمكن أن يقوض فكرة مجتمع الجدارة، لأن أقلية قليلة تحظى منفردة بفرصة الوصول إلى المزايا الكثيرة المادية والمعنوية اللازمة للنجاح – سواء كانت تتعلق بالتعليم أو الإثراء الثقافي أو العلاقات مع ذوي النفوذ. وهذا الاستبعاد، الذي يتحول بموجبه عدم المساواة في النتائج إلى عدم مساواة في الفرص، يلحق الضرر بالإنتاجية من خلال حرمان الاقتصاد من المهارات والمواهب التي يتمتع بها المستبعدون.
وهنا أيضاً، أعلم أن هيلين كانت تولي اهتماماً عميقاً لهذه المسألة – مجتمع الجدارة، الرغبة في ضمان قدرة كل فرد على الاستفادة من الفرص المتاحة وتحقيق إمكاناته الكاملة.
وكما قال مكسيم جوركي ذات مرة "الناس يعيشون على أمل مجيء شيء أفضل. ولهذا يجب أن نتفهم ظروف كل إنسان – فمن يدري ما بداخله ولماذا وُلد وماذا يمكنه أن يحقق؟"
وفيما يتعلق بالحد من عدم المساواة، تشير أبحاثنا إلى أهمية دور الاستثمار العام في مجالات كالصحة والتعليم ونظم الحماية الاجتماعية. ونظرا لحجم المشكلة، فإن للقطاع الخاص دوراً أيضاً في معالجتها. والواقع أننا في سياق التصدي للتحديات المصاحبة للثورة الصناعية الرابعة، علينا حث الأعمال على التفكير في سبل جديدة لتعزيز مسؤوليتها الاقتصادية والاجتماعية وتوسيع نطاقها.
وماذا عن البعد الآخر للإدماج – وهو المساواة بين الجنسين؟
الحقيقة المحزنة هي أن البنات والنساء في جميع أنحاء العالم لا يزلن يتعرضن لإهانات يومية تتمثل في التمييز والتحرش، وكثيراً ما يتعرضن للعنف أيضاً.
وحتى عند التركيز على البعد الاقتصادي وحده، نجد الأخبار صادمة. فحوالي 90% من البلدان لديها بعض القيود القانونية على ممارسة المرأة للنشاط الاقتصادي.
وهذا مجال آخر يؤدي فيه الإدماج إلى جودة الاقتصاد. فهنا في المملكة المتحدة، وكما نبهت هيلين نفسها في "استعراض هامبتون-ألكساندر" الشهير، سد الفجوات بين الجنسين من حيث المشاركة في سوق العمل من شأنه رفع إجمالي الناتج المحلي بنسبة تتراوح بين 5% و 8%.
وفي صندوق النقد الدولي، أوضحنا أن هذه القصة تتكرر في كل أنحاء العالم. ففي إفريقيا جنوب الصحراء، على سبيل المثال، تشير تقديراتنا إلى أن تقليص عدم المساواة بين الجنسين بمقدار 10 نقاط مئوية يمكن أن يرفع النمو بمقدار نقطتين مئويتين على مدار خمس سنوات. ولا شك أننا بحاجة إلى هذه الدفعة للنمو حتى ندعم أهداف التنمية المستدامة.
واللطيف في هذا الأمر هو أنه لا يتطلب إلحاق خسائر بالرجال. فإشراك عدد أكبر من النساء في النشاط الاقتصادي يتيح للاقتصاد الاستفادة من مواهبهن ومهاراتهن ومنظوراتهن الفريدة وآرائهن الخاصة. وهذا التنوع يدعم الإنتاجية، ويقود إلى أجور أعلى للجميع.
فكيف ندعم هذه الزيادة في المشاركة؟ في البلدان منخفضة الدخل على وجه الخصوص، هناك تدخلات أساسية تتضمن تقليص الفجوات بين الجنسين في الصحة والتعليم، ودعم الشمول المالي، والاستثمار في البنية التحتية، وضمان تحسين فرص الوصول إلى المياه النظيفة والمرافق الصحية. ويؤدي هذا إلى خلق حلقة مفرغة إيجابية – فالاستثمار في أهداف التنمية المستدامة ودعم تمكين المرأة يؤديان بدورهما إلى وضع الأساس اللازم لنجاح هذه الأهداف على نطاق أوسع. وفي الاقتصادات المتقدمة، هناك سياسات يمكن أن تساعد كثيراً في هذا الصدد، مثل الإجازة الوالدية وإتاحة خدمات رعاية الطفل بجودة عالية وأسعار في المتناول.
وهناك بُعد حيوي آخر، وهو الحاجة إلى دعم القيادات النسائية في عالم الشركات. وهنا أيضاً، تشير الأدلة إلى أن زيادة هذه القيادات يؤدي إلى نتائج أفضل – فهناك دراسة تفيد بأن إضافة امرأة في الإدارة العليا أو في مجلس إدارة الشركة يرفع العائد على الأصول بما يتراوح بين 8 و 13 نقطة أساس.
والواقع أن الصندوق أصدر اليوم فقط دراسة – يمكننا القول بأنها جاءت تكريماً لهيلين – تشير إلى أن زيادة نسبة النساء في مجالس إدارات البنوك في القطاع المالي ترتبط بزيادة الصلابة المالية. وفي نفس الوقت، نجد أن زيادة عدد النساء في مجالس إدارات أجهزة الرقابة المصرفية ترتبط بزيادة الاستقرار المالي. لكن الطريق لا يزال طويلاً – فعلى مستوى العالم، تشكل النساء أقل من خُمس أعضاء مجالس إدارات البنوك و2% فقط من رؤسائها التنفيذيين.
ونحن نعلم أن زيادة الآراء المتنوعة في مراكز القيادة تقلل احتمالات السقوط في مستنقع الفكر الجماعي والتحيزات اللاشعورية. وزيادة الآراء المتنوعة في مراكز القيادة تعني مزيداً من التعقل في صنع القرار وتركيزاً أكبر على الاستمرارية الأطول أجلاً. وأرى من الواضح أن أوضاع التمويل الحالية يمكن أن تستفيد كثيراً من زيادة التنوع.
وقد كانت هيلين تفهم كل هذا. وقد أشرت منذ قليل إلى "استعراض هامبتون-ألكساندر"، وهو من تركاتها العظيمة بالتأكيد. وفي هذا الاستعراض، كانت إحدى توصياتها الأساسية زيادة نسبة النساء في اللجان التنفيذية للشركات المدرجة في مؤشر فاينانشال تايمز 100 (FTSE 100) إلى 33% بحلول عام 2020، صعوداً من 26% حالياً. وخلصت إلى هذه النتيجة بأسلوبها البراغماتي الأسطوري – من خلال "تسليط ضوء على البيانات."
وكما قالت ذات مرة في إحدى المقابلات: "إذا كنا جميعاً من نفس المجموعة، ننتمي لخلفية من نفس النوع، فغالباً ما سنتعثر في نفس المكان إذا ما واجهنا نفس المشكلة. أما إذا كانت خلفياتنا مختلفة ومهاراتنا مختلفة وتراثنا الثقافي مختلفاً، فسوف نخرج من المشكلات بسرعة أكبر."
إن تجربة هيلين توضح أن ما قالته ليس مجرد كلمات جوفاء. ففي العقدين اللذين أمضتهما على رأس مجلة إيكونوميست – كما يعرف زاني جيداً، في الذكرى الخامسة والسبعين بعد المائة على نشأة هذه المطبوعة رفيعة المستوى – رفعت توزيعها من أقل من 400 ألف نسخة إلى قرابة 1.4 مليون نسخة أسبوعياً، في وقت كانت فيه مبيعات المطبوعات متراجعة في كل مكان.
ومن ثم فإن نقطتي الأساسية هنا هي أن نجاحنا في تحقيق أهداف التنمية المستدامة يتوقف على زيادة التنوع في عالم الأعمال – لتعزيز ديناميكية الاقتصاد والمساعدة على توجيه الأعمال والتمويل نحو الاستثمارات الأطول أجلاً التي يتطلبها النجاح في تحقيق هذه الأهداف. وهنا أيضاً، أشعر بالتفاؤل إزاء إمكانية تحقيق ذلك.
3- البُعد البيئي
أنتقل الآن إلى البُعد الثالث في أهداف التنمية المستدامة – وهو التأكد من أن التقدم الاقتصادي يحترم الحدود الطبيعية للكرة الأرضية. فمع مرور كل عام، تصبح موجات الحر أمراً معتاداً وتصبح العواصف أكثر تواتراً وأشد ضراوة، ويُلقي تغير المناخ ظلالاً متزايدة على رخائنا، ولا سيما رخاء أبنائنا.
والحكمة هنا واضحة – إذا انقلبنا على الطبيعة، فسوف تنقلب الطبيعة علينا. وبكلمات تي إس إليوت التي تقشعر لها الأبدان "لسوف أريك الخوف في حفنة من تراب."
لكن هناك بوادر أمل. فبعد التوقيع على أهداف التنمية المستدامة ببضعة شهور. تكاتفت بلدان العالم حول اتفاقية باريس، فتعهدت بتخفيض انبعاثات الكربون – بهدف وقف الارتفاع الذي تسجله درجات الحرارة العالمية بأكثر من درجتين مئويتين عن مستويات ما قبل الثورة الصناعية. وكان هذا إنجازا هائلاً، وشاهداً بارزاً على القوة الراسخة للعمل متعدد الأطراف.
وهذا الالتزام سيستتبع بدوره الانتقال إلى اقتصاد عالمي خالٍ من الكربون على مدار العقود القادمة. ولن تكون هذه مهمة سهلة، لكنني مقتنعة بأن العالم سيتمكن من نشر موجة فياضة من الوعي العالمي لاتخاذ الإجراءات الضرورية نحو تأمين مستقبلنا المشترك.
فما هو دور الصندوق في هذا المجال؟ يمكن أن نساعد بتقديم المشورة عن أفضل السبل لتحفيز هذا التحول في استخدام الطاقة.
وأفضل السبل للقيام بهذه المهمة هو تسعير الكربون. فتسعير الكربون يعود بمنافع عديدة. إذ إن من السهل توجيه السعر إدارياً إذا تم ذلك من خلال دمج رسوم الكربون في نظم ضرائب الوقود. وهو يتيح الحوافز الصحيحة في كل الأبعاد التي ينطوي عليها تخفيض انبعاثات الكربون – تحسين كفاءة استهلاك الطاقة، والتحول عن استخدام الوقود الأحفوري في توليد الكهرباء، والاتجاه نحو استخدام الكهرباء في المركبات والمباني والعمليات الصناعية. فمن شأن هذا أن يخفض مستويات تلوث الهواء الخطرة. وبالإضافة إلى ذلك، فإن ضرائب الكربون يمكن أن تحقق إيرادات تتراوح نسبتها بين 1% و 2% من إجمالي الناتج المحلي سنوياً، وهي إيرادات يمكن تخصيصها لأولويات أهداف التنمية المستدامة.
لكن الطريق لا يزال طويلاً – فحتى بعد بدء الصين في تطبيق نظام تداول انبعاثات الكربون في عام 2020، سيظل 80% من الانبعاثات العالمية غير خاضع للتسعير.
وسيكون التكيف مع هذا المعتاد الجديد أمراً مهماً أيضاً. فالبلدان المعرضة للخطر ستحتاج إلى الاستثمار في مجالات مثل حماية المناطق الساحلية وتعزيز صلابة البنية التحتية والزراعة. ستحتاج إلى تحسين إدارة المخاطر – وذلك على سبيل المثال من خلال نظم تجميع الموارد الإقليمية، وصناديق الطوارئ، وسندات الكوارث.
والصندوق ملتزم بمساعدة بلداننا الأعضاء على بناء أطر سياسات أكثر صلابة. فتقييماتنا لسياسات مواجهة تغير المناخ وضعت تقييماً لاستراتيجيات المناخ في بعض البلدان الأشد تعرضاً للخطر – بما فيها بليز وسيشيل وسانت لوسيا. ونقدم أيضاً تمويلاً سريعاً ومرناً لمواجهة الطوارئ في البلدان التي تصيبها صدمات مناخية حادة.
وهنا أيضاً، أعلم أن هذه مسألة كانت تحظى باهتمام عميق من هيلين. فلا شك أنها كانت تدرك أهمية الممارسات القابلة للاستمرار في عالم الأعمال. وهناك كثيرون لا يعلمون أنها تدربت كجغرافية وكانت فخورة بذلك!
4- بُعد الحوكمة
وأنتقل الآن إلى الركيزة الرابعة والأخيرة لأهداف التنمية المستدامة – الحوكمة الرشيدة. والحوكمة في الواقع هي الركيزة التي ينبني عليها كل شيء. فإذا كانت المؤسسات ضعيفة، تصبح احتمالات نجاح أهداف التنمية المستدامة أقل بكثير. ولذلك تدعو هذه الأهداف إلى "مؤسسات فعالة وشفافة وخاضعة للمساءلة على جميع المستويات".
وينطبق هذا على الجميع – القطاع العام والقطاع الخاص، محلياً وعالمياً. ينطبق على كل من المانحين والمتلقين للمساعدات الرسمية – للتأكد من أن تقديم المساعدات يتم بكفاءة وشفافية، بحيث تصل لمن يحتاجونها بالفعل دون أن تُهدَر أو تتحول وجهتها أو تتسم بالازدواجية. ينطبق على الشركات الخاصة والمؤسسات المملوكة للدولة – للتأكد من أن استثماراتها تتم بشفافية، على أساس من المنافسة الحرة، حتى تعود بالنفع على المواطنين.
وأود أن أقول بضع كلمات عن الفساد، وهو آفة اقتصادية واجتماعية حقيقية. فمن خلال ما يسببه من تقويض للثقة وسحب للشرعية عن المؤسسات، يصبح من الصعب على البلدان اتخاذ القرارات الجماعية اللازمة لتعزيز الصالح العام.
فكروا في هذا الأمر. إذا لم يسدد البعض نصيبهم العادل من الضرائب، فلن تستطيع الحكومات تدبير الإيرادات اللازمة لإنجاز أولويات أهداف التنمية المستدامة. والأسوأ من ذلك أن شرعية النظام بالكامل ستتقوض. وفي نفس الوقت، إذا كان الفساد مستشرياً، فقد يسول ذلك للحكومات أن تنفق أموالاً على مشروعات تولِّد عمولات دون أن يكون لها قيمة اجتماعية تذكر – وبذلك أيضاً يتم تقويض جدول أعمال أهداف التنمية المستدامة.
هذا ما يتعلق بالقطاع العام فقط. ونحن بحاجة أيضاً إلى استثمارات يقوم بها القطاع الخاص في مشروعات مستدامة طويلة الأجل تدعم أهداف التنمية المستدامة. لكن من المستبعد أن يُقْدِم القطاع الخاص على هذه الاستثمارات إذا كان مجبراً على سداد "ضريبة الفساد". فمن المؤكد أن ما يصاحب أي قرار استثماري من عدم يقين ومخاطر حقيقية يزداد ضخامة في وجود الفساد.
وبالطبع، لا يكون القطاع الخاص ضحية بريئة في كل الأحول. فالشركات والمستثمرون يكونون على استعداد تام لتقديم الرشاوى في بعض الأحيان، والقطاعات المالية الكبيرة تكون على استعداد تام للترحيب بالأموال القذرة في بعض الأحيان أيضاً.
ولا غرابة في أن أبحاث الصندوق خلصت إلى ارتباط الفساد وضعف الحوكمة بانخفاض النمو والاستثمار وتحصيل الإيرادات الضريبية – وبارتفاع عدم المساواة والإقصاء الاجتماعي.
فما الحل إذن؟ إن إنفاذ القانون على المجرمين ضروري بالطبع، لكنه لا يكفي وحده. فالأدلة التي خلصنا إليها تشير إلى أن مبادرات مكافحة الفساد الناجحة تقوم على إصلاح المؤسسات بصورة تركز على الشفافية والمساءلة – كأن يتم تسليط الضوء على كل جوانب ميزانية الحكومة، على سبيل المثال.
ولهذا السبب، يعمل الصندوق على تعزيز انخراطه في جهود الحوكمة ومكافحة الفساد، مع التركيز بدقة على المؤسسات الاقتصادية القوية. وحين نجد أن الفساد أصبح بحجم الاقتصاد الكلي، لن نتجنب الإفصاح عن ذلك.
وهناك مشكلة ترتبط بهذا، وهي جسامة حجم التحايل الضريبي. فأحد التقديرات يشير إلى أن الثروة المودعة في المراكز المالية الخارجية تصل إلى 10% من إجمالي الناتج المحلي العالمي. وهذا أيضاً يزيد من صعوبة تدبير التمويل اللازم لأهداف التنمية المستدامة.
وكلنا يعلم تماماً أن قيم الحوكمة الرشيدة هي القيم التي كانت تؤمن بها هيلين. ولا يمكنني التفكير في شخص آخر يمتلك نفس الدرجة من الأمانة والحيادية والنزاهة. ففي المناصب القيادية العديدة التي تقلدتها، كانت تجد نجمها الهادي في مبادئ الشفافية والمساءلة. هذا ما أحبه الناس فيها، وهذا ما أثمر ذلك الولاء الشديد من كل من عملوا معها. إنه ما قادها إلى هذا النجاح المبهر. وفي ذلك درس لنا جميعاً.
خاتمة
وقبل أن أختتم كلمتي اليوم، دعوني أختبر انتباهكم لما قلت. لقد اقتبست مقولة لكل من مكسيم جوركي وهربرت جورج ويلز. فما القاسم المشترك في المقولتين؟ الواقع أنه إلى جانب كونهما كاتبين وقصصيين عظيمين، فكلاهما كان يحب جدة هيلين، الأرستقراطية الروسية التي لا تقهر مورا بادبيرغ! من الواضح أن عائلة هيلين تزهو بأجيال كثيرة من النساء القويات.
وعند موضوع الأجيال هذا أود أن أنهي كلمتي اليوم. لأن تركة هذا الجيل ستتمثل في نجاحه أو فشله في تحقيق أهداف التنمية المستدامة.
في المسرحية الاستعراضية هاميلتون – التي تعرض بنجاح كبير هنا في لندن – نجد البطل الأول، ألكساندر هاميلتون، ينعم التفكير في سؤال أساسي قبل أن يلقى حتفه في مبارزة. يتساءل هاميلتون "ما هي التركة"، ويجيب: "إنها أن تغرس البذور في حديقة لن تتمكن من رؤيتها أبداً."
وقد تَرَكت هيلين ألكساندر وراءها تركة رائعة. وقد تركتنا في وقت مبكر للغاية، ولن تتمكن أبداً من رؤية الثمار اليانعة لما زرعته من بذور جميلة. لكن الجيل القادم سيراها – أبناؤها وطلابها وكل من أضاءت حياتهم بابتسامتنا الآسرة اللماحة.
آمل أن نتمكن جميعاً من ترك ميراث مماثل فيما يتعلق بأهداف التنمية المستدامة. فنحن مدينون بذلك لمن سيأتون بعدنا.
شكراً جزيلاً.