منذ وقوع الأزمة المالية العالمية عام 2008، شهدت اقتصادات الأسواق الصاعدة طفرة في التدفقات الرأسمالية كرد فعل للتيسير النقدي الهائل من كبرى البنوك المركزية. وظل إجمالي التدفقات الرأسمالية الداخلة إلى الشرق الأوسط وشمال إفريقيا مرتفعا مقارنة بالأسواق الصاعدة الأخرى، لكن تكوينها تغير بشكل كبير مع حدوث طفرة في تدفقات استثمارات الحافظة (أدوات الأسهم والسندات) وتراجع الاستثمار الأجنبي المباشر.
والتدفقات الرأسمالية نعمة تعود على المنطقة بالمنفعة بطرق متنوعة. فيمكنها أن تشكل مصدر تمويل للبلدان وتسهم في توفير فرص عمل للسكان الآخذين في التزايد بسرعة.
وكما يتبين من بحوثنا، على اقتصادات المنطقة أن تعمل المزيد لضمان جنى منافع تدفقات استثمارات الحافظة الداخلة مع ضمان مزيد من الاستثمار الأجنبي المباشر المستقر والداعم للنمو.
ارتفاع حاد في التدفقات
مع تزايد اندماج بلدان الشرق الأوسط وشمال إفريقيا في الأسواق الرأسمالية العالمية، ارتفعت تدفقات استثمارات الحافظة والتدفقات المصرفية الداخلة إلى المنطقة إلى ما يزيد على 155 مليار دولار على مدار الفترة من 2016 إلى 2018. وشكلت هذه التدفقات حوالي 20% من مجموع تدفقات استثمارات الحافظة إلى الاقتصادات الصاعدة خلال هذين العامين وبلغت نحو ثلاثة أضعاف حجم التدفقات إلى بلدان منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا على مدار الثماني سنوات السابقة.
فما السبب وراء ارتفاع تدفقات استثمارات الحافظة إلى المنطقة بهذه الصورة الحادة؟ نحن نجد أن حوالي ثلثي هذه الزيادة يمكن أن تُعزى إلى تحسن مزاج المستثمرين بالنسبة لتحمل المخاطر على مستوى العالم وهو أقل بكثير من متوسط مستواه التاريخي إذا قيس بمؤشر تقلب بورصة شيكاغو لعقود الخيار ("فيكس") الذي يُستخدم على نطاق واسع في قياس مدى تقلب أسواق الأسهم الأمريكية. وغالبا ما تكمن وراء تدفقات استثمارات الحافظة الداخلة عوامل عالمية "دافعة" مثل الإقدام على المخاطر في الأسواق المالية.
ولكن هناك عوامل أخرى مؤثرة كذلك. فارتفاع معدلات العجز المالي والخارجي الناتج عن زيادة الإنفاق في بلدان مثل مصر والأردن ولبنان وتونس ساهم أيضا في هذا الاتجاه، مثلما فعل انخفاض الإيرادات في البلدان المصدرة للنفط مثل البحرين وعمان بعد صدمة أسعار النفط في 2014. وقد ساعدت التدفقات الرأسمالية الداخلة هذه الحكومات على تمويل العجز المذكور. كذلك من العوامل التي ساهمت في ارتفاع تدفقات استثمارات الحافظة إلى منطقة دول مجلس التعاون الخليجي ما حدث مؤخرا من إدراج بلدانها - البحرين والكويت وعمان وقطر والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة- في مؤشرات الأسهم والسندات العالمية.
تزايد مواطن الضعف
إن البيئة المواتية لهذه التدفقات الداخلة بوجه عام عادت بالنفع على المنطقة ككل. ومع هذا، فمع تزايد المخاطر الاقتصادية العالمية في الوقت الراهن، ستكون بلدان منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا معرضة للمخاطر بصفة خاصة إذا تحول مزاج المستثمرين بالنسبة لتحمل المخاطر في العالم- خاصة تلك التي لديها عجز مالي كبير، وعليها أعباء دين هائلة، ولا تمتلك سوى هوامش وقائية محدودة.
وتخلُص بحوثنا إلى أن حساسية تدفقات استثمارات الحافظة الداخلة إلى المنطقة تجاه التغيرات التي تطرأ على الرغبة في الإقدام على المخاطر العالمية تبلغ حوالي الضعف إذا ما قورِنَت بالاقتصادات الصاعدة الأخرى، الأمر الذي يمكن أن يؤدي إلى هروب رأس المال أثناء فترات ارتفاع المخاطر. وتنشأ هذه الحساسية في الغالب من تصور ارتفاع المخاطر ككل في المنطقة، والذي يرجع إلى أجواء عدم اليقين الجغرافي-السياسي، والاعتماد على أسعار النفط المتقلبة، والتعرض لمخاطر التوترات التجارية العالمية.
ولكي نضع الأمور في نصابها، تشير حساباتنا إلى أن ارتفاع مؤشر تقلب بورصة شيكاغو لعقود الخيار ("فيكس") بمقدار الضعف عن مستواه في 2018 سيؤدي إلى تراجع تدفقات استثمارات الحافظة الداخلة إلى منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا إلى النصف. وإذا ازداد مقياس التقلب بمقدار أربعة أضعاف عن مستواه في 2018 ليصل إلى مستوى الذروة الذي سجله أثناء الأزمة المالية العالمية، فتدفقات استثمارات الحافظة يمكن أن تتوقف تماما.
بناء القدرة على الصمود
في ضوء هذه المخاطر المتزايدة، ما الذي ينبغي أن تفعله بلدان الشرق الأوسط وشمال إفريقيا لتقوية صلابتها في مواجهة التدفقات المتقلبة؟
أحد الدروس المهمة المُستفادة من اقتصادات الأسواق الصاعدة هو أن تحسين أطر السياسات يكتسب أهمية بالغة في جذب التدفقات الرأسمالية وفي الحفاظ عليها على حد سواء، بينما يساعد على تخفيف مخاطر خروج التدفقات. ويحقق العديد من بلدان المنطقة في الوقت الراهن تقدما نحو الحد من مواطن الضعف الاقتصادية، مما يعزز صلابتها في مواجهة الصدمات الاقتصادية المعاكسة ويساعدها في تقليل حاجتها إلى الاقتراض. على سبيل المثال، اتخذت مصر خطوات مهمة نحو تحديد أهدافها للتضخم، بينما حققت المغرب وباكستان تقدما في السماح بمزيد من المرونة في سعر الصرف. أما ضمان استقرار الأوضاع الاقتصادية الكلية من خلال تخفيض عجز المالية العامة فسوف يكتسب أهمية بالغة في حماية بلدان المنطقة من آثار تقلب التدفقات الرأسمالية.
وسيتعين على البلدان كذلك القيام بإصلاحات هيكلية رئيسية معينة، بما فيها إجراءات لتقوية الرقابة والتنظيم في القطاع المالي وكذلك تعزيز أو وضع مجموعات أدوات صحيحة للسلامة الاحترازية الكلية من أجل تحسين قدرة النظام المالي على القيام بدور الوساطة في التدفقات العابرة للحدود بشكل آمن. وينبغي أن تشمل مجموعات الأدوات هذه سياسات تضمن كفاية الاحتياطيات الوقائية من رأس المال والسيولة في البنوك فضلا على احتواء المخاطر التي تتعرض لها من قطاعات أو أصول معينة مثل العقارات أو النقد الأجنبي. وفي البلدان التي تؤدي التدفقات الرأسمالية الداخلة إليها إلى انتعاش الاستهلاك وبالتالي تفرض ضغوطا على أسعار الصرف وأسعار الأصول الأخرى، فمن شأن زيادة مرونة سعر الصرف فيها ودعمها بسياسات اقتصادية كلية سليمة أن تكون بمثابة أداة لامتصاص الصدمات.
ومع هذا، يتضح من تجربة الأسواق الصاعدة في الآونة الأخيرة اشتداد حدة العوامل الدافعة من الاقتصادات المتقدمة إلى حد جعلها تتسبب الآن في تعقيد قدرة أطر السياسات المحلية على مواكبة حركة التدفقات الرأسمالية الكبيرة. وبينما طفرة تدفقات استثمارات الحافظة الداخلة إلى منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا لا تزال في بدايتها، يمكن أن تشرع البلدان في بناء الصلابة في مواجهة احتمالات تكوين أرصدة هائلة من الأسهم والسندات الأجنبية مقارنة بحجم اقتصاداتها. ومن خلال مواصلة تطوير أسواق رأس المال المحلية - بوسائل منها إنشاء سوق للسندات الحكومية تعمل بكفاءة - ستشجع الحكومات على زيادة استقرار قاعدة المستثمرين المحليين، وتحسن المنافسة وتعزز أسواق سندات دين الشركات.
وبطبيعة الحال، فإن هذه الإصلاحات ستستغرق وقتا طويلا. لكن التأكيد على الالتزام القوي بهذه السياسات من شأنه أن يرسل إشارة واضحة إلى المستثمرين، الأمر الذي يمكنه أن يُحْدِث آثارا إيجابية مباشرة. وإذا عملت البلدان في أنحاء المنطقة على تعميق فهمها لتكوين التدفقات الرأسمالية، ستستطيع أن تضمن تحقيق منافع من هذه التدفقات الداخلة تعود على اقتصاداتها بدلا من مواجهة مزيد من المخاطر.
*****
الدكتور جهاد أزعور هو مدير إدارة الشرق الأوسط وآسيا الوسطى في صندوق النقد الدولي، حيث يشرف على عمل الصندوق في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا وآسيا الوسطى والقوقاز.
وقد شغل الدكتور أزعور منصب وزير المال اللبناني من عام 2005 وحتى 2008، وهي الفترة التي قام خلالها بتنسيق تنفيذ إصلاحات مهمة، منها تحديث النظم الضريبية والجمركية اللبنانية. وفي الفترة السابقة على عمله وزيرا للمال ثم الفترة اللاحقة لها، تولى عدة مناصب في القطاع الخاص، منها عمله في شركة ماكينزي وبوز آند كومباني حيث كان نائبا للرئيس والمستشار التنفيذي الأول. وقبل انضمامه إلى الصندوق في مارس 2017، كان مديرا شريكا في شركة إنفنتيس بارتنرز للاستثمار.
ويحمل الدكتور أزعور درجة الدكتوراه في العلوم المالية الدولية ودرجة علمية عليا في الاقتصاد الدولي والعلوم المالية، وكلاهما من معهد الدراسات السياسية في باريس. وبالإضافة إلى ذلك، فقد قام بأبحاث حول الاقتصادات الصاعدة واندماجها في الاقتصاد العالمي حين كان زميلا لما بعد الدكتوراه في جامعة هارفارد. وللدكتور أزعور عدة كتب ومقالات منشورة حول القضايا الاقتصادية والمالية كما أن لديه خبرة طويلة في التدريس.