مجلة التمويل والتنمية, ديسمبر 2017 • المجلد 54 • العدد 4    النص

بداية جديدة للتمويل العالمي

سوزان لوند وفيليب هارلي

التراجع في التدفقات الرأسمالية عبر الحدود يؤذن بنظام مالي عالمي أكثر قوة

تغير مشهد التمويل العالمي كثيرا بعد مرور عقد من الزمن على الأزمة المالية العالمية. فقد انخفض إجمالي التدفقات الرأسمالية العابرة للحدود (الاستثمار الأجنبي المباشر، والمشتريات من السندات وحصص الملكية، والإقراض والاستثمارات الأخرى) انخفاضا كبيرا منذ حقبة ما قبل الأزمة، وعادت مقابل إجمالي الناتج المحلي العالمي إلى مستويات أواخر التسعينات (راجع الرسم البياني 1). وفي حين تقلصت جميع أنواع التدفقات الرأسمالية، فإن الإقراض عبر الحدود يشكل أكثر من نصف إجمالي الانخفاض. وتعكس هذه الظاهرة تراجعا عن ممارسة الأعمال في الخارج وتحولا بعيدا عن تمويل تجارة الجملة عبر الحدود من جانب كبرى البنوك الأوروبية وبعض البنوك الأمريكية.

فهل هذا يعني أن العولمة المالية تعود إلى الوراء؟ ويخلص بحثنا الجديد إلى الإجابة بالنفي على هذا السؤال. فلا يزال النظام المالي العالمي شديد الترابط عند قياسه برصيد الأصول والخصوم الاستثمارية الأجنبية. ويبدو أن ما يتكشف من الأنقاض هي نسخة من الاندماج المالي العالمي أكثر حساسية للمخاطر وأكثر عقلانية ومن المحتمل أن تكون أكثر استقرارا وقدرة على الصمود — وهي في النهاية نتيجة مفيدة للجميع.

تحول في المشهد

أطلق الكثير من البنوك الكبرى في أوروبا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة خططا توسعية عالمية جريئة قبل الأزمة، بالسعي بكل الوسائل الممكنة لتحقيق النمو على الصعيد الدولي. فقد استحدثت أعمالا مصرفية للعملاء من تجار التجزئة والشركات في مناطق جديدة، وجمعت حوافظ كبيرة من الأصول الأجنبية، مثل توريق الرهون العقارية عالية المخاطر والعقارات التجارية، واعتمدت بشكل متزايد على التمويل بين البنوك عبر الحدود قصير الأجل.

ولكن الحذر أصبح الآن السمة الغالبة ويتم حاليا المحافظة على رؤوس الأموال. وتراجع الإقدام على المخاطرة وعادت الأعمال المصرفية المتحفظة — وحتى "المملة" كما يقول ميرفين كينغ محافظ بنك إنجلترا المركزي السابق. وكانت أكبر بنوك سويسرا والمملكة المتحدة وبعض بنوك الولايات المتحدة جزءا من حالة انسحاب واسع النطاق، ولكن لم يكن انعكاس الأوضاع أكثر شدة من ذلك الذي حدث بين بنوك منطقة اليورو (راجع الرسم البياني 2).

وبعد صدور اليورو في 1 يناير 1999، توسعت بنوك منطقة اليورو خارج حدودها الوطنية إلى جميع أرجاء منطقة العملة الواحدة. ونظرا للعملة الموحدة والقواعد الموحدة إلى حد كبير، تراجعت المخاطر ذات الصلة بكل بلد على حدة أو تم تجاهلها. وزادت أرصدتها من المطالبات الأجنبية (بما في ذلك القروض الخاصة بفروعها الأجنبية) من 4.3 تريليون دولار في عام 2000 إلى 15.9 تريليون دولار في عام 2007. ويرجع معظم هذا النمو إلى الإقراض ومشتريات الأصول الأجنبية الأخرى في منطقة اليورو. وكانت الروابط المالية المتنامية — وخاصة أسواق ما بين البنوك — مهمة أيضا حيث ربطت بين البنوك في منطقة اليورو ولندن والولايات المتحدة.

ولكن استند جزء كبير من التوسع الخارجي للبنوك إلى مخاطر غير محسوبة جيدا أو استراتيجيات غير موجهة بشكل جيد ظهرت من جديد وأثرت سلبا على البنوك. فقد اشترت بعض البنوك الأوروبية شرائح ذات تصنيف AAA- من الأوراق المالية الأمريكية المضمونة بالرهون العقارية عالية المخاطر التي أدت في وقت لاحق إلى خسائر كبيرة. واشتركت البنوك الهولندية والفرنسية والألمانية بشكل مباشر وغير مباشر في فقاعة العقارات الإسبانية وعانت من آثار انفجار تلك الفقاعة. وتوسعت البنوك النمساوية كثيرا في أوروبا الشرقية وحتى آسيا الوسطى ولكنها قلصت حجم أعمالها منذ ذلك الحين، وكان انكشاف البنوك الإيطالية كبيرا في تركيا حيث ثبت أن الهوامش المعدلة لمراعاة المخاطر كانت أقل مما كان متوقعا. وكان هناك عنصر من سلوك القطيع، حيث أدى سعي بعض البنوك الكبيرة بقوة إلى التوسع الخارجي للمشاركة في أعمال عالية الهامش إلى دفع الكثير من البنوك الأخرى إلى أن تحذو حذوها.

ولكن انعكس هذا الاتجاه منذ الأزمة: انخفضت المطالبات الأجنبية الخاصة ببنوك منطقة اليورو بمقدار 7.3 تريليون دولار، أو 45% (على الرغم من أنها لا تزال أعلى بكثير مما كانت عليه عندما ظهرت العملة الواحدة على الساحة). وكان نصف هذه المطالبات تقريبا مرتبطا بمقترضين آخرين في منطقة اليورو، ولا سيما بنوك أخرى. وتثبت أن تصور أن الإقراض في أي مكان داخل منطقة العملة الموحدة يمثل معاملة شبه محلية — وبالتالي منخفضة المخاطر — يمثل تصورا خادعا. وقد تبخرت بالمثل المطالبات بين بنوك منطقة اليورو وبنوك المملكة المتحدة والولايات المتحدة.

وقد كان هذا التراجع استجابة رشيدة — في منطقة اليورو وخارجها — إلى إعادة تقييم مخاطر المعاملات عبر الحدود. وبعد التروي، اتضح لكثير من البنوك أن الهوامش والإيرادات على الأعمال الأجنبية أقل من مثيلتها في الأسواق المحلية، التي يكون فيها لدى البنوك حجم أعمال كبير ودرية بالأوضاع المحلية — أو على الأقل أن الأعمال الأجنبية لا تستحق المخاطر الإضافية. وأصبحت البنوك الآن تحت ضغط مستمر من الهيئات التنظيمية وحاملي الأسهم والدائنين لتكون أكثر تحفظا. وأدت الشروط الدولية الجديدة بشأن رأس المال والسيولة إلى زيادة تكاليف حيازة جميع الأصول، وتضيف الروسم الجديدة المفروضة على البنوك المؤثرة على النظام المالي أثرا سلبيا على زيادة حجم وتعقيد مختلف خطوط الأعمال، بما في ذلك العمليات الأجنبية، وقلصت البنوك بعناية عملياتها الأجنبية استجابة لذلك. وأعطت بعض برامج البنوك المركزية التي وضعت بعد الأزمة لاستعادة الاستقرار المالي، مثل خطة التمويل من أجل الإقراض لبنك إنجلترا المركزي أو عمليات إعادة التمويل الموجه على المدى الطويل للبنك المركزي الأوروبي، للبنوك الحافز لإقراض المقترضين المحليين بدلا من الأجانب.

وقد باعت البنوك العالمية الكبرى بعض أعمالها الأجنبية أو خرجت تماما من بعض الأسواق الأجنبية أو مجرد سمحت بانتهاء القروض التي حان أجل استحقاقها. ووفقا لشركة Dealogic، وهي إحدى الشركات المتخصصة في توفير البيانات والتحليلات المالية، باعت البنوك أصولا تزيد قيمتها عن تريليوني دولار منذ الأزمة. ونتيجة لذلك، تحولت الميزانيات العمومية لمعظم البنوك الأوروبية بشكل كبير نحو الأصول المحلية. وكان ثلثا إجمالي أصول أكبر ثلاث بنوك ألمانية — المصرف الألماني، وبنك كومرتس وبنك KfW (Deutsche Bank, Commerzbank, and KfW) — محتفظا به في أسواق أجنبية عشية الأزمة؛ واليوم تقلصت هذه النسبة إلى الثلث.

وخفضت بنوك هولندا وفرنسا وسويسرا والمملكة المتحدة بالمثل أعمالها الأجنبية. وكان حجم عمليات البنوك الأمريكية على الصعيد الدولي أقل من نظيراتها الأوروبية، نظرا لحجم السوق المحلية الضخم، ومع ذلك خفضت بعض البنوك حجم أعمالها. فقد كان لمجموعة سيتي غروب عمليات مصرفية مرتبطة بسوق التجزئة في 50 بلدا في عام 2007، وأصبح هذا الرقم 19 الآن.

وفي حين انسحبت البنوك الأوروبية والأمريكية إلى أسواقها المحلية، فقد توسعت البنوك في المناطق الأخرى خارجيا، على الرغم من أنه ليس من الواضح حتى الآن ما إذا كان هذا التوسع سيكون مربحا أو قابلا للاستمرار. وتحتفظ البنوك الكندية الأربعة الكبيرة بنصف أصولها الآن خارج كندا، وخاصة في الولايات المتحدة؛ وتوسعت البنوك اليابانية خارجيا أيضا. كما أن ما يطلق عليها البنوك الصينية الأربعة الكبيرة وسعت بسرعة إقراضها الخارجي، ويرجع ذلك في المقام الأول لتمويل مشروعات الاستثمار الأجنبي المباشر في الخارج التابعة للشركات الصينية.

المزيد من الاستقرار في المستقبل

علينا ألا نحزن من إعادة مواءمة الخدمات المصرفية عبر الحدود. فالذروة الهشة التي بلغتها التدفقات الرأسمالية العالمية في السنوات التي سبقت الأزمة ليست قاعدة معيارية مناسبة يمكن استخدامها للحكم على حالة العولمة المالية. ولا يوجد توافق في الآراء على المستوى الأمثل للتدفقات الرأسمالية، ولكن هناك اليوم أدلة قليلة على نقص التدفقات الرأسمالية المتجهة إلى الاقتصادات النامية أو المتقدمة.

وبدلا من الإشارة إلى نهاية العولمة المالية، فإن التطورات الأخيرة تشير إلى ظهور نسخة أكثر استقرارا وقدرة على الصمود. ولا تزال الأسواق المالية حول العالم مترابطة للغاية. وعلى الرغم من أن التدفقات السنوية من رأس المال الجديد تراجعت تراجعا كبيرا، فقد استمر نمو رصيد الاستثمار الأجنبي المباشر العالمي وحوافظ حصص الملكية وحوافظ السندات منذ الأزمة، وإن كان بشكل أبطأ بكثير من السنوات التي سبقت الأزمة (راجع الرسم البياني 3). وعلى الصعيد العالمي، يتملك المستثمرون الأجانب 27% من حصص الملكية حول العالم مقارنة بنسبة 17% في عام 2000. وفي أسواق السندات العالمية، كان المستثمرون الأجانب يمتلكون 31% من السندات في عام 2016 بالمقارنة مع 18% في عام 2000. ويُعد عنصر الإقراض والاستثمارات الأخرى هو العنصر الوحيد من أرصدة الأصول والخصوم الاستثمارية الأجنبية الذي انخفض منذ الأزمة.

وهناك ثلاثة أسباب تشير إلى أن مستقبل العولمة المالية يمكن أن تكون أكثر استقرارا من الماضي، على الأقل على المدى المتوسط.

أولا، تغير مزيج التدفقات الرأسمالية العابرة للحدود بشكل كبير وبطرق ينبغي أن تؤدي إلى الاستقرار. فمنذ الأزمة، شكل الاستثمار الأجنبي المباشر 54% من التدفقات الرأسمالية العابرة للحدود، مرتفعا من 26% قبل عام 2007. ونظرا للحقائق الجديدة في تنظيم البنوك والتدقيق من جانب حاملي الأسهم، من غير المرجح أن يعود حجم الإقراض العابر للحدود إلى مستويات ما قبل الأزمة في المستقبل القريب. وسيعزز هذا التحول نحو الاستثمار الأجنبي المباشر الاستقرار في التدفقات المالية العابرة للحدود. ونظرا لأن الاستثمار الأجنبي المباشر يمثل الاستراتيجيات طويلة الأجل للشركات فيما يتعلق بأثرها العالمي، فإنه يُعد أقل نوع من التدفقات الرأسمالية تقلبا. ومشتريات الحافظة من حصص الملكية والسندات أقل تقلبا أيضا من الإقراض العابر للحدود، وشكلت هذه المشتريات أكثر من 40% من إجمالي التدفقات الرأسمالية منذ الأزمة. والإقراض عبر الحدود، ولا سيما الإقراض قصير الأجل، هو أكثر أنواع التدفقات الرأسمالية تقلبا، وينبغي أن يحظى تراجعه بالترحيب.

والمصدر الثاني المحتمل للمزيد من الاستقرار في العولمة المالية هو النمو المطرد لتحويلات العاملين إلى بلدانهم الأم. وهذه التحويلات أكثر استقرارا من الاستثمار الأجنبي المباشر نفسه وزادت بفضل زيادة الهجرة العالمية. ولا تُحسب تحويلات العاملين على أنها تدفقات رأسمالية في ميزان المدفوعات الوطني، وكانت قليلة جدا في الماضي. ولكنها أصبحت اليوم مصدرا كبيرا للتمويل في الاقتصادات النامية. وبحلول عام 2016، بلغت تحويلات العاملين إلى هذه الاقتصادات ما مجموعه 480 مليار دولار تقريبا، مقارنة بمجرد 82 مليار دولار في عام 2000 و275 مليار دولار في عام 2007. وهي تعادل الآن 60% من التدفقات الرأسمالية الخاصة (الاستثمار الأجنبي المباشر، وتدفقات حوافظ حصص الملكية والدين والإقراض عبر الحدود) وتبلغ ثلاث مرات حجم المساعدة الإنمائية الرسمية. ومن المرجح أن تواصل تحويلات العاملين النمو مع استمرار الزيادة في الهجرة العالمية وتطور التكنولوجيات مثل المدفوعات باستخدام سلسلة التجمع والدفع عبر الهاتف النقال التي تجعل التحويلات أكثر سهولة وأرخص سعرا.

والمصدر الثالث المحتمل للمزيد من الاستقرار في التمويل العالمي هو تقلص وفرة المدخرات العالمية التي ظهرت قبل الأزمة. وتقلصت الاختلالات العالمية في الحسابات المالية والرأسمالية من 2.5% من إجمالي الناتج المحلي العالمي في عام 2007 إلى 1.7% في عام 2016. ويؤدي ذلك إلى انخفاض احتمالات أن تسفر إزالة هذه الاختلالات فجأة عن حدوث تقلبات في أسعار الصرف وأزمات في ميزان المدفوعات في بعض البلدان. وبالإضافة إلى ذلك، تنتشر اليوم العجوزات والفوائض في عدد أكبر من البلدان، وانحسرت الاختلالات الكبيرة في الصين والولايات المتحدة. وهناك نقاش الآن بين الاقتصاديين حول إمكانية استمرار الاختلالات العالمية الأصغر حجما.

لا مجال للشعور بالرضا

لا يوجد في أي من هذه التطورات ما يدعو إلى الشعور بالرضا. فلا تزال التدفقات الرأسمالية الإجمالية متقلبة، ومن المحتمل أن تؤدي إلى تقلبات في أسعار الصرف للاقتصادات النامية. ولا محالة من أن يأتي النظام المالي العالمي المتشابك بإحكام بمخاطر حدوث أزمات وعدوى. وفقاعات الأصول والانهيارات قديمة مثل الأسواق نفسها.

وإذا كنا قد تعلمنا أي شيء من الماضي فهو أن الاستقرار يتحقق بصعوبة ويفقد بسهولة بالغة. وفي الوقت الذي بدأنا فيه نرسم أنماطا جديدة للاندماج المالي العالمي بعد التغير العنيف الذي حدث في السنوات العشر الماضية، فهناك إعاقة جديدة — ومغيرة لقواعد اللعبة — آتية في شكل تمويل رقمي. فمن المرجح أن تؤدي زيادة انتشار استخدام التكنولوجيات المالية الجديدة مثل المنصات الرقمية وسلسلة التجميع والتعلم الآلي إلى توسيع المشاركة في التمويل العابر للحدود وتسريع التدفقات الرأسمالية. وستكون هناك فرص هائلة، ولكن ستكون هناك أيضا منافسة شرسة. ولا يعرف أحد منا حتى الآن ما هي المخاطر الجديدة التي يمكن أن تنشأ نتيجة التدفقات الأسرع لرأس المال حول العالم، ولكن من المهم جدا توخي اليقظة والانتباه جيدا للتهديد القادم الذي سيتعرض له الاستقرار.

يستند هذا المقال إلى تقرير "الديناميكيات الجديدة للعولمة المالية*" الصادر عن معهد ماكينزي العالمي في أغسطس 2017.


سوزان لوند شريكة في معهد ماكينزي العالمي ومقره واشنطن العاصمة، وفيليب هارلي كبير الشركاء في شركة ماكيزني وشركاه ومدير إدارة الممارسات المصرفية في الشركة، ومقرها ميونيج.