وجهت الأزمة ضربة بالغة الشدة للمؤسسات الصغيرة والمتوسطة، مما أسفر عن فقدان هائل للوظائف وغيره من الندوب الاقتصادية الغائرة. ومن هذه الندوب – الأقل وضوحا للعيان وإن كانت تتسم بالخطورة أيضا – تصاعُد القوة السوقية للشركات المهيمنة وهي تخرج من الأزمة أقوى من ذي قبل بينما يتساقط منافسوها الأصغر واحدا تلو الآخر.
ونعلم من خبرتنا ومن خلال أبحاث الصندوق أن القوة المفرطة في أيدي قلة من الشركات يمكن أن تكون عبئا على النمو في المدى المتوسط، حيث إنها تخنق الابتكار وتعوق الاستثمار. وهذه النتيجة يمكن أن تقوض التعافي من أزمة كوفيد-19، ومن شأنها الحيلولة دون صعود الكثير من الشركات البازغة في وقت تشتد فيه الحاجة لديناميكيتها.
وقد أصبح إرساء بيئة أكثر دعما لقواعد المنافسة العادلة أهم الآن من أي وقت مضى. وسيكون على الحكومات تحقيقها في مجموعة كبيرة من القطاعات – بدءا من إنتاج الجعة ومرورا بالمستشفيات وانتهاء إلى الصناعة الرقمية.
ويوضح بحث جديد أجراه الصندوق أن المؤشرات الأساسية للقوة السوقية في صعود – ومنها، على سبيل المثال، زيادة الأسعار فوق التكلفة الحدية، أو تركُز الإيرادات بين أكبر أربع مؤسسات في قطاع ما. وبسبب الجائحة، تشير تقديراتنا إلى أن هذا التركز يمكن أن يزداد الآن في الاقتصادات المتقدمة على الأقل بنفس مقدار زيادته في الخمسة عشر عاما المنتهية في آخر 2015. وحتى في الصناعات التي استفادت من الأزمة، مثل القطاع الرقمي، نجد أن المؤسسات المهيمنة هي من بين أكبر الفائزين.
هل يتفاقم الاتجاه المشاهَد منذ عقود؟
من شأن زيادة القوة السوقية التي سببتها الجائحة في صناعات متعددة أن تؤدي إلى تفاقم اتجاه عام تعود بدايته إلى أربعة عقود. فعلى سبيل المثال، زاد الفرق بين الأسعار العالمية للمنتجات وتكلفتها الحدية بأكثر من 30%، في المتوسط، عبر مختلف الشركات المدرجة في البورصة في الاقتصادات المتقدمة منذ عام 1980. وفي العشرين عاما الماضية، كانت زيادة هذا الفرق في القطاع الرقمي ضِعف مثيلتها في بقية الاقتصاد.
وبالطبع، فقد كانت الأرباح القوية على مدار التاريخ هي المكافئة الطبيعية للشركات الناجحة التي أزاحت غيرها من خلال الابتكار والكفاءة وتحسين الخدمة. ولنتذكر هنا شركة "إيكيا" وكيف أحدثت تحولا في طريقة شرائنا للأثاث، أو شركة "آبل" وكيف غيرت سوق الهواتف المحمولة.
غير أننا نشهد مؤخرا دلائل متنامية في كثير من الصناعات على أن القوة السوقية أصبحت راسخة الجذور في ظل غياب أي منافسين أقوياء للشركات المهيمنة. وعبر مختلف القطاعات، نقدِّر أن الشركات صاحبة أعلى هوامش الربح في سنة ما (الشريحة العُشْرية العليا) لديها فرصة تكاد تصل إلى 85% للحفاظ على هامش ربحها المرتفع في السنة التالية – وهي نسبة أعلى بنحو 10 نقاط مئوية عما كان عليه الوضع أثناء حقبة "الاقتصاد الجديد" في تسعينات القرن العشرين.
ومثال ذلك شركات التكنولوجيا الكبرى: فهذه الشركات صاحبة الابتكارات الثورية في السوق والتي أزاحت الشركات التي كانت على الساحة منذ عقدين من الزمان أصبحت الآن، وبوتيرة متزايدة، هي المهيمنة في السوق دون أن تواجه نفس الضغوط التنافسية من الشركات الطامحة إلى دور المبتكر الثوري في الوقت الراهن. وهنا تمثل الآثار الناجمة عن الجائحة عاملا إضافيا ضمن العوامل الأساسية القوية مثل آثار الانتشار الشبكي ووفورات الحجم والنطاق.
دور صفقات الدمج والاستحواذ
ونرى الآن في عدة صناعات أن هناك اتجاها عاما نحو تراجُع ديناميكية الأعمال. ومثال ذلك مؤسسة صناعية يافعة تعجز عن الانطلاق خارج سوقها المحلية، أو مؤسسة بادئة لتجارة التجزئة تتضرر من أسعار منافس كبير يعمد إلى البيع بأقل من سعر التكلفة مؤقتا حتى يمنع المشروعات الجديدة من دخول السوق.
كل هذه فرص ضائعة فيما يتعلق بالنمو وخلق الوظائف وزيادة الدخول. وتشير أبحاثنا إلى أن بعض الشركات تسيطر على الأجور في أسواق العمل، فتدفع للعاملين أقل مما تبرره إنتاجيتهم الحدية.
ومن العوامل المساهمة في هذه الاتجاهات العامة ازدياد صفقات الدمج والاستحواذ – وخاصة من جانب المؤسسات المهيمنة على الأسواق. وفي حين أن صفقات الدمج والاستحواذ يمكن أن تحقق وفرا في التكلفة ومنتجات أفضل، فإن بإمكانها أيضا إضعاف حوافز الابتكار وزيادة قدرة الشركة على تقاضي أسعار أعلى. ومما يثير القلق أن تحليلنا يشير إلى أن صفقات الدمج والاستحواذ التي تقوم بها الشركات المهيمنة تساهم في تراجع ديناميكية الأعمال على مستوى الصناعة بوجه عام – حيث يتضرر النمو والإنفاق على البحوث والتطوير لدى كل المنافسين بلا استثناء. ويشكل هذا باعثا للقلق البالغ في عالم يتسم بانخفاض نمو الإنتاجية.
الانعكاسات على صناع السياسات
فما الذي يمكن أن تفعله الحكومات إذن؟ نود تسليط الضوء على خمس أولويات تختلف أهميتها باختلاف البلدان.
أولا، ينبغي للسلطات المعنية بالمنافسة أن تتوخى اليقظة المتزايدة عند إنفاذ الرقابة على عمليات الدمج. فيجب أن تشمل معاييرها المطبقة لمراجعة أي صفقة كل الحالات ذات الصلة – بما في ذلك عمليات الاستحواذ على الكيانات الصغيرة في السوق التي قد تحقق نموا يتيح لها التنافس مع الشركات المهيمنة. فعلى سبيل المثال، طبقت ألمانيا والنمسا مؤخرا حدودا تقوم على سعر الصفقة، بالإضافة إلى الحدود القائمة على حجم أعمال الكيان المعني. ومن الممكن أن تساهم تقييمات قرارات الدمج السابقة في إنفاذ قواعد المنافسة بصورة أكثر فعالية.
ثانيا، ينبغي للسلطات المعنية بالمنافسة أن تعتمد منهجا أنشط في إنفاذ قواعد الحظر على إساءة استخدام المراكز المهيمنة وأن تعول بدرجة أكبر على استخدام تحريات السوق للكشف عن السلوك الضار بغض النظر عن وجود تقارير بشأن انتهاك القانون. وقد اتضحت مزايا هذه التحريات في عام 2018 حين أجرت أستراليا تحقيقا بشأن صناعة منتجات الألبان أدى إلى فرض تحسينات إلزامية في ممارسات التعاقد بين المزارعين والقائمين بعمليات التجهيز.
ثالثا، يتعين بذل جهود أكبر لضمان المنافسة في أسواق المدخلات، بما في ذلك أسواق العمل. وهنا، سيكون من المرحب به الالتزام بالإنفاذ القوي للقواعد التي تحظر اتفاقيات عدم التنافس على الموظفين. كذلك فإن شروط عدم التنافس في بعض عقود العمل في صناعة بيع التجزئة والوجبات السريعة تزيد من صعوبة انتقال الموظفين إلى وظائف بأجور أفضل – وهو أمر مهم للعاملين ذوي المهارات المحدودة على وجه الخصوص.
رابعا، ينبغي تمكين السلطات المعنية بالمنافسة من مواكبة الاقتصاد الرقمي، حيث يؤدي بروز تقنيات البيانات الضخمة والذكاء الاصطناعي إلى مضاعفة الميزة التي تتمتع بها الشركات القائمة. ومن الممكن جعل التنافس مع الشركات المستقرة أكثر سهولة على الشركات الجديدة من خلال تيسير إمكانية نقل البيانات وإمكانية التوافق التشغيلي بين الأنظمة. ولتبيان ما يستطيع التنظيم تحقيقه من إتاحة خيارات التبديل المذكورة وتحسين رفاهية المستهلك، نذكر على سبيل المثال كيف عزز الاتحاد الأوروبي المنافسة منذ عقدين عن طريق إعطاء العملاء حق الاحتفاظ بأرقام هواتفهم المحمولة عند تبديل الشركة المُشَغِّلة.
وأخيرا، فإن الموارد مهمة. ففي الولايات المتحدة، على سبيل المثال، تبلغ الميزانية المجمعة لهيئة التجارة الفيدرالية وقسم مكافحة الاحتكار بوزارة العدل حوالي نصف ما كانت عليه منذ أربعة عقود، كنسبة من إجمالي الناتج المحلي. وفي كثير من البلدان الأخرى، قد يلزم توجيه استثمارات لتحقيق مزيد من التقدم في تعزيز الخبرة الفنية في قطاعات بعينها في خضم التغير التكنولوجي السريع. وقد أعلنت المملكة المتحدة مؤخرا إنشاء "وحدة الأسواق الرقمية" التي ستضطلع بمسؤولية ضبط سلوك المنصات المهيمنة، مثل غوغل وفيسبوك.
بوادر إيجابية مبشرة
والخبر السار هو أن المراجعات النشطة لأطر سياسة المنافسة جارية بالفعل في الاقتصادات الرئيسية، بما في ذلك الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة. وتتيح هذه المراجعات فرصة لا يجب تفويتها. وينبغي أن يتحرك صناع السياسات الآن للحيلولة دون ارتفاع حاد جديد في القوة السوقية من شأنه تعطيل التعافي.
إن الأزمة ستعيد تشكيل اقتصاداتنا من خلال تحولات هيكلية عميقة يُتوقع أن تحفز موجة من الشركات الشابة عالية النمو على الابتكار وخلق وظائف عالية الجودة. وهي تستحق بيئة تحقق لها المنافسة على قدم المساواة وتتيح لها فرصة عادلة للنجاح.
ومن المهم أيضا وجود دعم أوسع نطاقا من السياسات للمؤسسات الصغيرة والمتوسطة، إذ إن كثيرا من الشركات الصغيرة لم تتمكن من الاستفادة من البرامج الحكومية المصممة لمساعدة الشركات على الوصول إلى التمويل أثناء الجائحة. ومع ترسُّخ جذور التعافي والتراجع التدريجي عن تقديم الدعم من خلال السياسات، سيكون ضمان إتاحة التمويل للمؤسسات الصغيرة والمتوسطة التي تتوافر لها مقومات البقاء مطلبا أكثر إلحاحا، حتى لا يتفاقم وضعها الأضعف أصلاً مقارنة بالشركات الأكبر.
*****
كريستالينا غورغييفا (رابط السيرة الذاتية)
فيديريكو دييث يعمل اقتصاديا في وحدة الإصلاحات الهيكلية بإدارة البحوث في صندوق النقد الدولي. وقبل انضمامه إلى الصندوق، كان يعمل في بنك الاحتياطي الفيدرالي في بوسطن. وتشمل اهتماماته البحثية القوة السوقية للشركات، والابتكار، وريادة الأعمال، وتنظيم الشركات، وعملة الفواتير. وهو حاصل على درجة الدكتوراه في الاقتصاد من جامعة ويسكونسن-ماديسون.
رومان دوفال يعمل مديرا مساعدا في إدارة البحوث بالصندوق، حيث يقود جدول الأعمال المعني بالإصلاحات الهيكلية. وسبق له العمل في إدارة آسيا والمحيط الهادئ، وكذلك في منظمة التعاون والتنمية في الميدان الاقتصادي قبل التحاقه بالصندوق. وقد نُشِرَت له تحليلات عديدة في كبرى الدوريات الأكاديمية والمعنية بالسياسات حول موضوعات متنوعة، من بينها العوامل الاقتصادية واعتبارات الاقتصاد السياسي المرتبطة بالقواعد التنظيمية لأسواق العمل والمنتجات، والنمو الاقتصادي، والإنتاجية، والتجارة، والسياسة النقدية، وأسعار الصرف، واقتصاديات تغير المناخ. وهو حاصل على درجة الدكتوراه من جامعة باريس-1 بانتيون سوربون.
دانييل شوارتز يعمل مستشارا قانونيا في وحدة الشؤون القُطْرية التابعة لإدارة الشؤون القانونية بالصندوق. وهو يقدم المشورة بشأن مجموعة متنوعة من المجالات بما فيها التمويل والتجارة الدولية وقانون المنافسة. وكان يعمل في وقت سابق محاميا متخصصا في قضايا المنافسة لدى مكتب محاماة دولي ولدى "هيئة السلوك المالي" بالمملكة المتحدة. وهو حاصل على درجتين علميتين في القانون والاقتصاد.