مجلة التمويل والتنمية, ديسمبر 2017 • المجلد 54 • العدد 4 النص
شخصيات اقتصادية
التفتح متأخرا
كريس ويليش يقدم لمحة عن شخصية ديفيد أوتور، الاقتصادي بمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا الذي حقق أعمالا رائدة بشأن آثار الواردات على سوق العمل في الولايات المتحدة
إذا مررت بمكتب ديفيد أوتور ساعة الغداء ستجد أستاذ الاقتصاد بمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا يمضغ سندويتشا من زبدة الفول السوداني مع مربى الجيلي يحضره كل يوم من منزله. والمسألة لا تقتصر على حُب أوتور لزبدة الفول السوداني مع مربى الجيلي فحسب، ولكن ذلك يوفر له الوقت الذي يستغرقه للنزول إلى الكافيتريا في الطابق الأسفل.
وخلال مقابلة أجريت معه في الفترة الأخيرة، قال أوتور البالغ من العمر 53 عاما من مكتبه الذي يطل على نهر تشارلز "لن أضيع ساعة من وقتي أبدا." ويضيف "إذا لم أكن أعمل، فإنني أقوم بشيء آخر مفيد." ويمكن أن يكون ذلك الشيء الإبحار مع ابنه، أو التزلج كقائد فريق هوكي الجليد بالجامعة، أو فك الأدوات الكهربائية وتركيبها مرة أخرى.
فعلم الاقتصاد يتعلق أساسا بالندرة، ويبدو أن الوقت نادر جدا بالنسبة لأوتور الذي بدأ متأخرا في هذه المهنة ويعتقد أنه لا يزال أمامه الكثير الذي يتعين اللحاق به — على الرغم من المكانة البارزة التي حققها بالدراسات الرائدة عن أثر التجارة والتكنولوجيا على سوق العمل في الولايات المتحدة. وتعد مجموعة البحوث الكبيرة لأوتور عن سوق العمل — 29 مقالا في مجلات أكاديمية عن موضوعات تتراوح ما بين استحقاقات الإعاقة والحد الأدنى للأجور — مفعمة باحترام كرامة العمل والتعاطف مع الفئات المحرومة، والقلق إزاء ما تُحدثه البطالة من أضرار على الأسر والمجتمعات المحلية.
ويقول أوتور "إن التعطيل شيء فظيع." ويستطرد قائلا "إن العمل يعطي هيكلا ومعنى لحياة الناس. ويمنحهم هوية. ويوفر لهم حلقة اجتماعية." وهو لا يتفق مع الاقتصاديين الذين يرون العمل على أنه السعر الذي ندفعه ليكون بوسعنا الاستهلاك. فيقول "هذا ليس صحيحا بالمرة بالنسبة لما يفعله معظمنا. فإننا يمكن أن ندفع لنحتفظ بوظائفنا."
وبالنسبة لشخص أكاديمي، فلديه مقدار غير عادي من الخبرة بالحياة العملية: استشاري في برمجيات الحاسوب، ومدرس للأطفال المحرومين، ومساعد إداري بإحدى المستشفيات. وقد أعطاه كل ذلك فهما عمليا لموضوعه والميل إلى استخدام الوقائع الجامدة لاختبار النظريات الاقتصادية التي يقرأها، وأن يشكك فيها في بعض الأحيان.
ولنأخذ مثال دراسات أوتور عن أثر الواردات من الصين على عمال المصانع في الولايات المتحدة. فعندما كان طالبا بالدراسات العليا في كلية جون كينيدي للدراسات الحكومية بجامعة هارفارد في أواخر التسعينات، كان الاقتصاديون يناقشون أسباب انخفاض الوظائف في الصناعات التحويلية الأمريكية وخلصوا إلى أنه اتجاه طويل الأجل وأن الأتمتة هي السبب الرئيسي. وبقدر ما كان العمال مسرحين بسبب المنافسة الناتجة عن الواردات، فإنهم يمكن أن يجدوا وظائف أخرى بسهولة نسبية في سوق العمل الأمريكية الكبيرة والمرنة.
ويقول أوتور "في الوقت الذي أوشك فيه النقاش على الانتهاء، كانت الحقائق تتغير. فقد كان لصعود الصين أثر كبير ولم يكن الناس يلاحظونه."
فقد أدى انضمام الصين لمنظمة التجارة العالمية في عام 2001 إلى تسريع صعودها كقوة اقتصادية عالمية يمكن أن تستفيد من مجموعة كبيرة من العمالة الرخيصة لإنتاج أثاث ومنسوجات وأجهزة كهربائية منخفضة السعر. وبين عامي 1991 و2012، قفز نصيب الصين من الصناعات التحويلية العالمية من 4% إلى 24%.
وكانت الصدمة للعمال في الولايات المتحدة عميقة وطويلة كما يزعم أوتور وزملاؤه — ديفيد دورن من جامعة زيورخ وغوردن هانسن من جامعة كاليفورنيا بسان دييغو. ففي مقال صدر في عام 2013، أشاروا إلى أن الواردات الصينية مسؤولة بشكل مباشر عن فقدان 1.53 مليون وظيفة بالمصانع بين عامي 1990 و2007 — أي خُمس الانخفاض الكلي في العمالة بالصناعات التحويلية في البلد بأكمله. وكانت هذه الخسارة في الوظائف تتركز في مناطق البلد المعرضة مباشرة للمنافسة الصينية، وفي المناطق الأخرى، كان انخفاض الوظائف في الصناعات التحويلية أكثر من متواضع."
"العمل يعطي هيكلا ومعنى لحياة الناس. ويمنحهم هوية."
والأهم، خلص الباحثون إلى أن "صدمة الصين" كما أطلقوا عليها بشكل استفزازي، تمتد خارج الصناعات التحويلية إلى صناعات غير متأثرة مباشرة بالمنافسة من الواردات، مثل الموردين. وتراجع توظيف العمالة، ومستويات الأجور، ومشاركة قوة العمل في أسواق العمل المحلية لمدة عقد أو أكثر. (وفي دراسة لاحقة، أشارت تقديراتهم إلى أن خسائر الوظائف بشكل غير مباشر تبلغ مليون وظيفة.) وتثير هذه النتائج الشكوك حول الآراء المقبولة بشأن تنقل العمالة. ولم يكن من السهل أن ينتقل العمال إلى مناطق أخرى مليئة بالوظائف أو أن يغيروا مهنهم كما افترض الاقتصاديون.
ويقول لورنس كاتز، رئيس الفريق المشرف على رسالة أوتور بجامعة هارفارد ومتعاون معه في أعمال من حين إلى آخر "شكك ديفيد في هذه الحكمة السائدة. وقد واصل الناس الاعتماد على أدلة قديمة ترجع إلى 10 سنوات أو 20 سنة. وبالنظر إلى أنه تكون هناك احتكاكات نتيجة الانتقال، فإننا نرى أن تكاليف التجارة تكون أكبر بكثير عما كنا نعتقد."
كان عمل أوتور عن الصين قد أفاد من الإحساس العميق بالقلق من فقدان وظائف الفئة المتوسطة الذي عكر حملة الانتخابات الرئاسية الأمريكية في عام 2016. وفي دراسة صدرت في ديسمبر 2016، خلص أوتور وزملاؤه إلى أن صدمات التجارة تدفع الناخبين إلى طرفي الطيف السياسي. وفي مقال آخر، أوضحوا كيف يؤدي انخفاض آفاق العمل وانخفاض أجور الشباب في المجتمعات المعرضة للتجارة إلى تقليل الرغبة فيهم كأزواج محتملين، مما يسهم في انخفاض معدلات الزواج وارتفاع معدلات الأطفال المولودين لأمهات وحيدات.
ويمثل التغير التكنولوجي مصدرا آخر للقلق العام — وهو موضوع مثير بالنسبة لأوتور الذي ألهمت جزء منه خلفيته في مجال علوم الحاسوب. فمع انتشار استخدام الحاسوب في المنزل والعمل بالقرب من نهاية القرن الماضي، بدأ الاقتصاديون في دراسة كيف أدى الإلمام بمهارات الحاسوب إلى زيادة قيمة الناس في سوق العمل.
وانتهج أوتور منهجا مختلفا. فقد أوضح مهام محددة يقوم بها العمال — مثل تحريك شيء ما أو إجراء حساب ما — ونظر إلى تلك التي يمكن القيام بها بواسطة الحاسوب. وخلص هو وزملاؤه إلى أنه حتى إذا كانت الحواسيب حلت محل العديد من المهام الروتينية العادية للوظائف "متوسطة المهارات"، مثل حفظ السجلات أو العمل كأمين صندوق، فقد أدت إلى تفاقم قيمة مهارات حل المشكلات وقابلية التكيف والإبداع التي كانت تتسم بها الوظائف المهنية والإدارية. وفي الوقت ذاته، لم يتيسر استخدام الحواسيب لتحل محل بعض المهام اليدوية، مثل تلك التي يقوم بها عمال النظافة أو الوجبات السريعة. وكانت النتيجة زيادة الاستقطاب في سوق العمل، حيث ذهبت معظم مكاسب الأجور إلى العمال أصحاب أعلى وأدنى المهارات في حين ضاقت فئة أصحاب المهارات المتوسطة.
وقد نشأت هذه الرؤية من دراسة في عام 2002 للعمال في بنك ما قام بتركيب برمجية جديدة لتجهيز الشيكات، وهي مهمة كان يقوم بها موظفو البنوك يدويا منذ أواخر القرن التاسع عشر. وقضى أوتور وزملاؤه ريتشارد مورنين وفرانك ليفي من جامعة هارفارد ساعات لا تعد ولا تحصى في البنك حيث أجروا مقابلات مع الموظفين والمديرين وشاهدوا الناس أثناء العمل. واكتشفوا أنه في حين أن برامج الكومبيوتر يمكن أن تجهز 97% من الشيكات، لا يزال يتعين أن يجهز الناس النسبة المتبقية البالغة 3% — التي تنطوي على مشكلات مثل السحب على المكشوف والتوقيعات غير المقروءة. ويمكن بعد ذلك إعادة تنظيم عمل هؤلاء الموظفين بطريقة تتطلب مزيدا من المهارات.
ويقول أوتور "الناس يعملون الأن بمجموعات أوسع من الحسابات ويقومون بحل مشكلات بشكل أكبر عن مجرد تجهيز المعاملات."
ويترسخ جزء كبير من دراسات أوتور وأعماله البحثية في العمل الميداني. وحين كان يعد دراسة عن سبب تقديم شركات المساعدة المؤقتة تدريبا عمليا في الوقت الذي يبدو فيه أنه من الواضح أنها لن تستفيد منه، سجل أوتور نفسه كمتقدم للعمل بإحدى هذه الشركات لاكتساب خبرة عملية من عملية المقابلة الشخصية. واكتشف أن هذه الشركات توفر تدريبا مجانيا لتقييم الدافع الذي لدى الموظفين ولتعلم كيفية جذب الناس الذين كانوا على استعداد للتحسن.
وبالمثل، يترسخ اهتمامه بالتغير التكنولوجي في خبرته الحياتية: فقد علّم نفسه في المدرسة الثانوية على برمجة أحد الحواسيب الشخصية الأولى، وهو Radio Shack TRS‑80. غير أن مساره من الحواسيب إلى علم الاقتصاد لم يكن مسارا مباشرا.
فقد التحق بجامعة كولومبيا ولكن سرعان ما تركها (موضحا "كنت غير ناضج بالمرة") وانتقل مرة أخرى إلى مدينته الأم، بوسطن، حيث عمل كمساعد إداري في إحدى المستشفيات. وأصبح مطور برمجيات في المستشفى ثم انضم إلى صديق له يعمل في مجال تقديم الاستشارات بأن البرمجيات، مثل إعداد قواعد البيانات للبنوك.
وعندما عاد إلى الكلية، وهذه المرة في جامعة توفتس بمدينة مدفورد في ماساتشوستس، تخصص أوتور في علم النفس لكي يصبح طبيبا نفسيا سريريا مثل والديه.
ولكن عند تخرجه في عام 1989، يقول "خلصت إلى أنه على الأقل بالنسبة لجزء من علم النفس الذي كنت أدرسه، كنت أحب الأسئلة كثيرا ولكنني لم أكن مقتنعا تماما بالأساليب والإجابات. وكانت لدي هذه الرغبة في علوم الحاسوب والهندسة، ولكنني كنت اهتم بالمشكلات الاجتماعية، ولم أكن أعرف كيف يمكن أن أجمع بين الاثنين معا."
فصعد إلى سيارة دودج كولت كان قد اشتراها بمبلغ 250 دولارا وقادها عبر البلد بدون أي خطة واضحة في ذهنه. وبينما هو يستمع إلى الراديو على الطريق، عرف أن كنيسة تتبع طائفة المسيحيين المنهاجيين (بروتستانت) في سان فرانسيسكو ستبدأ برنامجا لتعليم مهارات الحاسوب لأطفال المدينة. وتطوع أوتور للعمل هناك وأصبح مديرا تعليميا بعد فترة قصيرة.
فيقول "رأيت أن هذا أقرب لما أبحث عنه. فمن ناحية، كان العمل تقنيا، ومن الناحية الأخرى كنت أعمل على مسائل اجتماعية، وهو ما كان له معنى بالنسبة لي."
والتقى زوجته ماريكا تاتسوتاني وهما يبحثان عن شريك بالمنزل في مدينة أوكلاند بولاية كاليفورنيا. وفي ذلك الوقت، كانت تاتسوتاني طالبة بالدراسات العليا بجامعة كاليفورنيا في بيركلي. وهي تعمل الآن لحسابها الخاص ككاتبة ومحررة وخبيرة استشارية في مجالي الطاقة والبيئة. ولديهما ثلاثة أطفال تتراوح أعمارهم بين 13 و20 عاما.
وبعد الإقامة ثلاث سنوات في كاليفورنيا، قرر أوتور، الذي لا يهدأ أبدا، أن الوقت قد حان للانتقال. ومازح بتقديم طلبات إلى كليات الطب، لكنه اختار في النهاية برنامج السياسة العامة بكلية جون كينيدي بجامعة هارفارد التي اكتشف فيها أوتور، نتيجة دورات الاقتصاد المطلوبة، مجال عمله المستقبلي. ويقول "لم أكن اصدق. فلماذا لم يبلغني أحد أبدا عن ذلك؟ فهذا ما الذي كنت أبحث عنه. فهذا المجال يتناول المشكلات التي اهتم بها، ولكنه يقوم بذلك باستخدام الأساليب التي تحظى بتقدير وقيمة من جانبي واستمتع بها."
وكان مورنين، وهو أحد أساتذة أتور (وتعاون معه فيما بعد بشأن الدراسة المتعلقة بالبنوك) معجبا بفضوله وحماسه. ويقول "كانت خلفيته في مجال علم النفس عاملا مهما فيما أعتقد وأعطته منظورا أوسع للنظر إلى المشكلات مقارنة بدارسي علم الاقتصاد فقط."
وفي عام 1999، حصل أوتور على الدكتوراه ووجد نفسه في سوق العمل، وكان إحساسه أن مؤسسات مثل معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا لن تأخذه محمل الجد كاقتصادي لأن الدرجة التي حصل عليها كانت في مجال السياسة العامة. وبالتالي عندما طلبه أوليفييه بلانشار، عميد كلية الاقتصاد في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا آنذاك ليعرض عليه الوظيفة، شعر أوتور بالخوف لدرجة أنه لم يكن يريد الرد على المكالمة في البداية.
فيتذكر قائلا "كنت مرعوبا. وشعرت من ناحية إنني أكثر الناس حظا في المهنة بأكملها، ومن الناحية الأخرى إنني في غير محلي تماما. فما الذي أفعله هنا؟"
ويقول بلانشار الذي أصبح فيما بعد كبير الاقتصاديين في صندوق النقد الدولي وهو الآن من كبير الزملاء في معهد بيترسون للاقتصادات الدولية في واشنطن العاصمة "لقد كان تعيين ديفيد بالفعل غير عادي بالنسبة لمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا. ولكن كان هناك شعور بالهدف وموهبة حقيقية وجدية في العمل أقنعتنا على الاختيار. وبالفعل كنا على حق."
ومع ذلك كانت فترة أول سنتين صعبة على أوتور الذي شعر أنه تنقصه الأساسيات النظرية الكافية في علم الاقتصاد. ويتذكر أنه تم تكليفه بتدريس مادة على المستوى الجامعي في نظرية الاقتصاد الكلي وكان يشك في أنه مؤهل لذلك.
ويقول "في البداية، كنت أشعر إنني بالفعل لا أعرف هذه المادة، وينبغي ألا أقوم بتدريسها. ثم فكرت وقلت إذا هذه طريقة جيدة لتعلمها."
وهذه الأيام، أوتور مشغول أكثر من أي وقت مضى، وإن كان مستوى توتره أكثر انخفاضا. فقد تم تعيينه مديرا مشتركا لبرنامج دراسات العمل في المكتب الوطني للبحوث الاقتصادية، إلى جانب ألكسندر ماس من جامعة برينستون. يقوم حاليا بتدريس مادة نظرية الاقتصاد الجزئي التطبيقي والسياسة العامة لطلبة الجامعة. وهو يواصل بحوثه بشأن كيف تُشكل الصدمات الاقتصادية المعتقدات السياسية وبنية الأسرة الأمريكية. وقد شرع في دراسة طموحة متعددة السنوات عن أثر المعونة المالية على الحضور بالكليات وإكمال الدراسة بها.
ويترك له كل ذلك ست ساعات للنوم — إذا كان محظوظا. ولكنه لا يشتكي.
ويقول إن الناس اتسموا بكرم كبير في توجيهه وإعطائه الفرصة للتعلم وهو ما شكّل مساره الوظيفي. وهو يريد أن يقدم هذا الكرم للغير في المستقبل. "لقد كنت محظوظا جدا."
كريس ويليش من فريق العمل في مجلة التمويل والتنمية.